على هضبة من الدّوم
تتوسّد نهرا جميلا، ولدت.
كنت أنظرُ إلى مجرى النّهر تحتي مدّة أطول
حتى يخيّل إليّ أنّه ساكنٌ
وأني من يترقرق في التيّار، فأسترخي على عشب الضفة كمياه.
. .
ثمّة قلعة في الجهة الغربية
لا ترفع بوقا للحرب ولا راية للسلام
كنت أجمع الأزهار في طريق العودة منها إلى البيت.
لم أعرف طريقا آخر
لأن كل الطرق تأخذ إلى جهة واحدة
وحياتي مرّت سريعاً هنا، كسرب طيور بصوت حاد
لا يفهم منه شيء.
وحين امتلكتُ المعنى
قشّرته خفية تحت طاولة العائلة كبرتقالة.
. .
بهدوء كبرتُ، ولم ألحظ تقريباً
زدت سنتمترات أخرى، وتقتُ إلى أن تخفّ كتفاي
إلاّ ممّا يسقطُ عليها من ثلج
لأني كنت أكبر في طفولتي، وأشسّعها ما أمكن
لم أنتبه إلى أنّ أصابعي صارت أقوى
لتكتب في البياض بتلات هندباء
أنفخ فيها فتطير في الهواء إلى وجهات غير أكيدة..
لم ألحظ
لأنّي مازلت أذهب متثاقلا كأيّ طفل
لأقص شعر رأسي الكثيف حين ينمو
ويعضّ أذنيّ كالعادة،
عند حلاّق يشبه بستانيّاً في أعلى زقاق تظلّله شجرة
ولأنّي لم أختبر الموت سوى في عيون الأسماك في السّوق
فقد تأجّل حزني قليلاً..
. .
من الجهة الأخرى ثمّة بؤس كان يغني في الأزقّة
ويمرّ أحياناً تحت النّافذة، بقراقب كناوية
تهزّ الغرفة التي يدلف إليها الضوء كثور قويّ في الصباحات
مثيراً ذرّات الغبار..
ناطحاً صورتي على الحائط
ثم يمرض كامرأة على سريري، حين تتنحى الشمس قليلاً.
ثمّة أصوات عراك، وفرح أطفال
وطبول أعراس، وحكمة مجانين مرّت تحت نافذتي
ثمّة خرفان أعياد
سيقت عبر الزقاق إلى حيث تذبحُ بسكين النسيان الحادّ.
من هناك،
تأمّلتُ النّجوم البعيدة
وهي تلمع في الشتاء، ومرّ القمر كقطعة معدنية خلف تلك النافذة، وأنا أنظر إليه في أكمام كممحاة للزّجاج المضبّب
حتى سقط في حصّالة الأمس.
نافذة على الهضبة، وهضبة على النّهر
النّافذة عيناي تطلّ على الفصول
وحين أغيب، أو أكون منصرفاً إلى ملاكمة هواء الغرفة
تظلّ هناك تحفل بتحليق طيور.. وحفيف سروة وحيدة
وأطفال عائدين من المدرسة مع مساء هادئ يحمل محفظة النّهار المحشوّة بالسّحاب وعلب الحليب الفارغة وقمامة الأزقة على كتفيه.
تلك النّافذة لم تعد عيناي الآن..
صارت إطار لوحة لوجوه عديدة بائسة كبلطات تطلّ وهي تدخّنُ سجائر رخيصة.
لا يمكن رؤية شيء من خلالها، فقد تهتّكت النّظرة.
الرباط. 2013
ـ اللوحة: Mountain River by John Davis