
لا يوجد في يومنا هذا جانب من جوانب الحياة لا تسيطر المعلومة عليه، حيث يبرز الإعلام كأداة قوية تشكّل الرأي العام وتوجه السياسات.و لا يقتصر دوره على نقل الأخبار أو التسلية، بل يمتد ليصبح قوة رابعة تراقب وتحاسب. وفي هذا السياق، يظهر الإعلام الأنجلوساكسوني كنموذج مرجعي، يتميز بمبادئه الثابتة في حرية التعبير، واستقلاليته عن السلطة السياسية، وتعددية مصادره. وفي المقابل، يظل الإعلام العربي في كثير من حالاته في موقع يخضع لقيود السلطة، حيث يُمارس دوره في إطار تنظيمي غالبا ما يصطف مع توجهات الحكومة أو النخب الحاكمة.
يجب أولا فهم الجذور الفكرية التي قامت عليها كل تجربة إعلامية. فقد نشأ الإعلام في الأنجلوساكسونية على أسس ديمقراطية ليبرالية، حيث يُعتبر حق المعرفة من حقوق الإنسان الأساسية. في هذا السياق، تترسخ الصحافة كحارس للحرية ووسيلة للتعبير عن الرأي دون قيود. أما في العالم العربي، فقد نشأ الإعلام في أغلب الأحيان في فترة ما بعد الاستعمار، حيث كانت وسائل الإعلام جزءًا من بناء الهوية الوطنية والترويج للمشاريع السياسية الكبرى. لذلك، لم يكن الإعلام في بداية نشأته أداة للمساءلة أو النقد، بل أداة ترويجية، مع التركيز على الوحدة الوطنية أو الدفاع عن الدولة في وجه التحديات.
تتضح الفروق بين التجربتين أكثر عندما نتناول دور الإعلام كسلطة رابعة. في الأنجلوساكسونية، يُنظر إلى الصحافة ليس فقط كوسيلة لنقل الأخبار، بل كأداة رقابية على السلطة السياسية. ففي أمريكا، على سبيل المثال، لا يتوانى الإعلام في كشف الفضائح السياسية الكبرى، مثل فضيحة “ووترغيت” التي أدت إلى استقالة رئيس الجمهورية. الصحافة هنا تقوم بدور حاسم في حماية الديمقراطية وتوجيه الرأي العام. بينما في الدول العربية، يُعتبر الإعلام غالبًا امتدادًا للسلطة، إذ يُنظَر إليه كأداة لبث رسائل السلطة والمساهمة في استقرار الأنظمة الحاكمة. هنا، تظل الصحافة بعيدة عن النقد الحقيقي، بل تقتصر في كثير من الأحيان على نقل الأخبار الرسمية وإعادة صياغتها بما يتماشى مع التوجهات الحكومية.
أما من حيث الملكية والاستقلالية، فقد شكلت المؤسسات الإعلامية في الأنجلوساكسونية مزيجا من القطاع الخاص والمستقل والعمومي. في هذا النموذج، تتنوع مصادر الإعلام وتتسابق المؤسسات لتقديم محتوى متنوع، بما يتماشى مع متطلبات السوق والجمهور. وسائل الإعلام العمومي، مثل “BBC” في بريطانيا، تساهم في تقديم محتوى معتدل ومتوازن بعيدًا عن التأثيرات السياسية. لكن، في العالم العربي، تظل وسائل الإعلام في أغلب الحالات ملكًا للدولة أو مقربة منها، مما يفرض على الصحافي تحديات في الحفاظ على استقلاليته ومهنته. إذ غالبًا ما يخضع الإعلام في الدول العربية لضغوط اقتصادية وسياسية تؤثر في الخط التحريري وتحد من قدرة الصحافيين على ممارسة حرية التعبير.
ولعل أبرز ما يميز الإعلام الأنجلوساكسوني هو قيم المهنية العالية التي يقوم عليها. الإعلام في هذا النموذج لا يقتصر على نقل الخبر، بل يتطلب التحقق، التوازن، والحياد. الصحافيون يتدربون على مهارات البحث والتقصي، ويشرف على عملهم هيئات مستقلة تضمن التزامهم بالمعايير المهنية. هذا التدريب والتطوير المستمر يساهم في تحسين مستوى الصحافة ويزيد من تأثيرها في تشكيل الرأي العام. بينما في العالم العربي، بالرغم من وجود العديد من الصحافيين المبدعين، إلا أن مستوى التكوين غالبًا ما يكون محدودًا، ويعاني الصحافيون من ضغوط كثيرة تؤثر في استقلالهم المهني.
كما أن العلاقة بين الإعلام والجمهور تختلف بشكل لافت بين النموذجين. في الدول الأنجلوساكسونية، أصبح الجمهور جزءا أساسيا من العملية الإعلامية. التفاعل مع المحتوى الإعلامي أمر حتمي، حيث يشارك المواطنون في نشر الأخبار، التعبير عن آرائهم، ومحاسبة المؤسسات الإعلامية على أداءها. هناك ثقافة نقدية قوية، تجسدها وسائل التواصل الاجتماعي والمشاركة الفعالة في النقاشات العامة. بينما في الإعلام العربي، يبقى الجمهور في غالب الأحيان مستهلكا للمحتوى الإعلامي، دون أن يكون له دور بارز في تشكيل النقاش العام أو التأثير في الإعلام بشكل مباشر. وعليه، فإن الإعلام العربي يظل بعيدا عن التحولات الرقمية التي شهدها الإعلام الغربي، حيث تفتقر معظم الصحف والقنوات العربية إلى الأدوات التي تسمح لها بالتفاعل الفاعل مع جمهورها.
و قد اثبتت التجارب أن الإعلام الأنجلوساكسوني سيظل مرجعا للنموذج المثالي للإعلام الحر والمستقل، الذي يعمل لصالح المجتمع ويعزز من قوته الديمقراطية. أما الإعلام العربي، فهو في مرحلة انتقالية، حيث لا يزال يواجه تحديات كبيرة تتمثل في التوازن بين الحرية والرقابة، وبين المهنية والولاء السياسي. رغم ذلك، هناك أمل في أن تساهم التحولات الرقمية وتزايد الوعي الشعبي في دفع الإعلام العربي نحو النموذج الذي يجسد المبادئ الأساسية للحرية والمهنية.