(لا يمكنك إزالة حبة رمل واحدة من مكانها دون تغيير شيء ما عبر جميع أجزاء الكل اللامحدود) ـ يوهان غوتليب فيتشه ـ
تقديم : بينما ننشغل بالوفرة الكثيرة التي تعزل أهدافنا عن نشدان طاقة بديلة لمواكبة تغيرات العالم وطفراته السريعة، تتأسس معالم إعلامية جديدة، تخرق كل أنماط التفكير التقليدي للغات التواصل وميكانيزماته.
وبينما يكسر النظام العالمي الجديد وظائف وأدوار الثقافات اللغوية والبصرية، من حيث اختيارات عناصر تثويرها وإحلالها في البراديجمات المتطورة والمؤثرة في الواقع المجتمعي الكوني الراهن، تنتكس قابلياتنا مرة أخرى، رافضة أبعاد هذا الانخراط، متلمسة نسق الفوضى وتدمير الذات، وتطويع الإرادات، على نحو يكرس أثر الفراشة أو نظرية الفوضى التي يريدون.
في خضم هذه المتاهة الخرساء، يصح وفقا لقناعات استدلالية استقرائية خاصة، وضع جسور فكرية، كمعبر لسلوك يجسد نوعا من النظام المتحرك الذي يعتمد على فروقات بسيطة في مراحله الأولى، بينما نجازف لأجل إبراز شيء من ديمقراطية العقل ..
* واقع اللغة العربية في الإعلام
لقد أضرت وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي بمجتمعاتنا العربية، وأتلفت جانبا هاما من هوياتها الثقافية واللغوية.
والتساؤل المطروح بقوة الآن، هو محتوى الوسائط الاجتماعية، ودورها في تشويه تصوراتنا عن المجال العام، من خلال استهداف المستخدمين بأعداد كبيرة من المحتوى الذي يُقصد منه أن يكون له صدى خاص بمن يحدد الدوافع والأهداف ، ومن ضمن ذلك، خلق نموذج عقلي زائف للمجتمع، والإمعان في تحويل الأنظار عن الإشكاليات الجوهرية التي يعانيها العقل العربي، ومحاولة حصرها في الزاوية، حتى يتم تغييب هويتها وجعلها خاضعة للتهجين والاتباعية، مثلما هو حاصل الآن، عندما يطالب بعض المحسوبين على تربتنا، بإلغاء تدريس اللغة العربية في مدارس البعثات، بل اللجوء إلى القضاء الأجنبي لرفع تظلمهم؟.
هناك اعتقاد مشترك على نطاق واسع الآن، أن المعلومات المضللة التي تنشرها وسائل الإعلام ومن ضمنها وسائط التواصل الاجتماعي تخلق ركاما من ردود الفعل للضرر الموجه بشكل عام للغة الضاد ، وتعمل بمثابة قوة مضاعفة لتفاقم أسوأ مشاكلنا المرتبطة بثقافتنا الوطنية وهويتنا.
يمكن تحديد المشكلة بدقة هنا، يجب التركيز على محتوى الوسائط الاجتماعية ، واتخاذ إجراءات صارمة ضد المواد المسيئة للغتنا والتي تثير انقساما يصل إلى حد القطيعة، وبالتالي نحن مطالبون بحصر قائمة أمراض هذا المحتوى، بما في ذلك الكراهية والتبخيس والمعلومات المضللة وسيل من الأكاذيب الصريحة التي تتعارض مع الحقائق العلمية والتاريخية والقانونية أيضا.
المشكل أن العديد من الأصوات الداعمة لهذه التوجهات، تجادل على اعتبار أن القوانين الدولية تحمي حرية التعبير والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي ، ولا ينبغي إضعافها، وهو ما يحملنا مسؤوليات مضاعفة، مجتمعا مدنيا وهيئات سياسية ومؤسسات تعليمية وجامعات ومثقفين وإعلاميين ..إلخ.
* العامية في وسائل الإعلام
السمات اللغوية التي يستخدمها صناع المحتوى الجديد، في بيئة إعلامية معولمة، مربوطة مع الأسف الشديد بمؤشرات هذه السمات، بالهوية والأيديولوجية.
صحيح أن تعدد اللهجات في مجتمعنا، يوفر هامشا من ضعف استخدام ميزات تواصلية منسجمة، وتبتدع خطابا تحاوريا وسطيا ، يجمع بين قيم اتساقية خالصة لمبدئية “اللغة الرسمية الوطنية” ووظيفة تكريس التنوع اللغوي كمكون ثقافي وحضاري، لكن الميل إلى تجنب الوقوع في ظروف غير مفهومة وإظهار الشعور بالاحتفال بهذا التنوع، سينظر إليه وكأنه تغليب فرع على أصل، ووحدة كاملة على فكرة مجزأة.
والحقيقة أن حضور العامية في مجتمع المعرفة المفترض، لا يشكل في اعتقادي أي خطر على اللغة العربية. كنت قد اطلعت على دراسة هامة لباحثين إنجليزيين، هما مورو وكاسلتون (2007)، واللذان ذهبا إلى أن القنوات الفضائية والإنترنت قد نشرت اللغة العربية الفصحى الحديثة بشكل واسع ، وعززت الروابط بين الدول العربية وساعدت في توحيد اللهجات أيضا، في العام 2011 ، وبعد الربيع العربي.
ويرى الباحثان في هذا الصدد، فإن اللغة العربية الفصحى قد دخلت عصرها الذهبي، وهو ما سهل التواصل بين النخب من جميع أنحاء العالم العربي، كما أدى الشعور المتزايد بالفخر بالوطن الأم إلى سماع المزيد من اللهجات على شاشات وفضائيات التلفزيون، حيث أدت التغطية المباشرة لعامة الناس الذين حرضوا على مظاهرات الربيع العربي إلى زيادة البث الدياليكتيكي.
هذا يعني أن الأزمات والمشاكل الكبرى، تضعنا على المحك، وتدفعنا باتجاه تصحيح النظر، وإبراء الذمة وتأسيس البراديجمات الجديدة، التي تصلح وتعيد السكة إلى طريقها الصحيح.
لا يمكن للعامية المشوبة بانحرافات اللسان واعوجاج البنيان وضلال البرهان، أن تحسم في وجود حضارة أو أمة لا يعلو على قيمها وأخلاقها وثقافتها، فقد جرب منظروها وكادوا وشمروا على سواعد التيه والنرجسية والصلافة، ولم يفلحوا، وسيعودون من حيث أتوا ..
*لغة التواصل الإعلامي
معلوم أن مناهج محددة لوسائل الإعلام تظهر صلاتها بمشروع لغوي اجتماعي واسع، يرتبط بطريقة الخطاب وأشكال المحادثة. وهنا يمكن استخدام “السيميائية” للنظر في لغة الوسائط كجزء من نظام الإشارة ، أو كعملية تواصل مع التأثيرات الاجتماعية والثقافية المعقدة التي تؤثر على كيفية إنتاج النصوص الإعلامية وفهمها.
ولا حاجة إلى التذكير هنا، أن تحليل الخطاب النقدي يقدم نظرة شاخصة للأعمال الأيديولوجية لوسائل الإعلام ، لا سيما حول الأسئلة المتعلقة بالسلطة والعدالة والتغيير الاجتماعي، وهو ما يعقد إلى حد ما الوصول إلى تواصل إعلامي متفاعل مع الوضعيات والسلوكيات التي تنتشر بشكل مخيف في وسائل التواصل الاجتماعي، وترهن أفق وانتظارات تحوز الأولوية في مضمار “التفكير في الهوية اللغوية والثقافية”.
وقد ينظر في إطار تحليل المحادثة في الممارسات الروتينية للتفاعل الاجتماعي الواضحة في وسائل الإعلام، أن لغة الخطاب تتحول تدريجيا إلى مستوى غير قابل للتصنيف أو التقابل، ومن تمة فالوازع الحقيق بالنظر الآن، هو تكييف لغة الخطاب المتداول، بقيم المجتمع المخلصة لنظامها اللغوي والهوياتي والثقافي.
*الإعلام وسيلة تطوير وإحفاز
وسائل الإعلام وغيرها من أشكال تكنولوجيا الاتصال لها تأثير هائل في المساعدة على تشكيل الرأي العام والمشاعر الأساسية. ولا بد وأن تكون لهذه الوسائل وظائف تشخص مبصارية لغة خطاباتنا، وجعلها ملائمة لواقعنا وعاكسة لمنظومتنا الحياتية، ومذيبة لخلافات تستعر تحت نيران التشويه والتزييف والاستعداء.
إن الفهم الأساسي للوظائف التي يؤديها خطاب وسائل الإعلام باللغة العربية ، يتضمن الإطار النظري لمقاربات تواصلية ذات تأثير متبادل وتكميلي لنهج ميسر وقادر على التجميع وليس التفضيل، والمبادرة دون تعثرات أو انحرافات.
وبما أن الخطاب الإعلامي باللغة العربية، يؤدي وظائف مجتمعية متعددة، في السياسة والاقتصاد والتعليم والتنمية المستدامة، ..إلخ، وهو الذي سيساعد في تعزيز عالم من الديمقراطية والاستدامة ، والتعليم الميسور بضمانات تكرسها التعددية الثقافية ، والهوية الوطنية، وتؤطر حقلا دلاليا متطورا يوفر للغتنا سعة في إدارة أهداف محددة وذات تأثير ينقل اختياراته على نطاق إيجابي ومتفاعل مع مستجدات العصر .فإن الضرورة الحتمية لتقريب قضاياها ومشكلات الناطقين بها، تستنطق بالدرجة الأولى أولويات ورهانات هذا التطوير المبتغى، على أساس أن تكون المدرسة والجامعة، والأسرة والمجتمع المدني، جسورا لتحمل المسؤولية، حتى يصل النبع بالفروع وتكتمل عملية التطوير وتتكامل.
*رسالة الإعلاميين الهوياتية
مسؤوليتهم كمسؤولية المؤسسات التي يشتغلون بها. سواء كانت هذه المؤسسات عمومية أو خاصة.
الإعلام الهادف له سلطة مباشرة على الضمير والأخلاقيات، وما عدا ذلك، سيكون من الصعب تحديد رهانات خارج صندوق التفكير.
واقع اللغة العربية، يوازي واقع الإعلام في بلادنا، من حيث اشتباههما في الوضعيات والإمكانيات، وكذا سوء التدبير. فإذا صلح عضو منهما صلح الجسد كله.
إذا اقتدرنا على تعليم أبنائنا وتوجيههم التوجيه الصحيح، انعقدت طفرة اللغة واندغمت في مشروع تأسيسهم، فكانوا صورة حقيقة بتمثل إعلامنا وقدوتنا في التربية.
ما نراه الآن في إعلامنا يعكس فقط صورة ما أنتجت المدرسة. ولا سبيل للنهوض بواقع لغتنا العربية دون تشميل عتباتنا المذكورة، بالرؤية التي تخطط والمنهاج الذي نرتضي.
وما عدا ذلك، فإن التخبط سيبقى بوصلة تعيق هذا النهوض، وتجعله نفقا مظلما يسحبنا إلى التيه والتوجس وسوء المآل.
*سمات المواجهة والاستنفار الإعلامي
لا ننتظر وحيا يتنزل خلاصنا من مأزق “عدم فهمنا لرسالية لغة القرآن”، فالوحي قد انقطع من السماء، ولا ملاذ لنا سوى إعادة هذا الفهم وتجذيره وتدويره وتطويره، دون إغفال لأسباب ذلك، مع تشجيع البحث العلمي والارتقاء بالعلم وصنوف المعرفة.
إن مستقبل اللغة العربية، بيد أبنائها، هم من يرتقون بها، ويذودون عن حياضها ويسوسون شؤونها، ويبدلون الغالي والنفيس لاستمرار جذوتها في نفوس الأجيال المقبلة.
أما الهجومات اليومية التي تتعرض لها لغتنا، فأغلبها إن لم نقل كلها، مغلولة بقيود الأيديولوجيات والإثارات العصبية والعرقية. ولا يجد الناطقون بجمالها والمتيمون بوجدانها غير التلبد بميزان الاعتبار، للتقدير الذي يجمع من حولها أكثر من 467 مليون نسمة في الكون، فهم أحق بامتصاص آلام البشرية كلها، ونشر متونها وأناسقها في كل المحافل والموائد الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها. وواجب الحفاظ عليها وصونها من هجومات الحاقدين النافقين، فرض عين وكفاية.
كنت قد قرأت رؤية للمستشرق الفرنسي جاك بيرك، عن قوة لغتنا العربية، واستحسنت الختم بها. يقول:” ” إنّ أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسيّ في المغرب هي اللغة العربية، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وكانت هذه الكلاسيكية العربية عاملًا قويًّا في بقاء الشعوب العربية.”