(إنّ هذا العالم المليء بالآثام لم يصل إلى تلك الدرجة، إلا لأنّ كل إنسان قد أعطى لنفسه الحق في أن يحكم) ـ البير كامو
في ذاكرتنا الثقافية والتراثية من يتقصد محوها وإخفاء آثارها. ومنهم مسؤولون لا يفصلهم عن طلاء التاريخ وتقشيره، سوى متاهة العوم ضد التيار وإغراق السفن وتلويث الآفاق.
قريبا من هذه الاستعارة المؤلمة، تتجلى حقيقة واضحة كالشمس، ضلت مضمرة تحت غطاءات مشبوهة، تتفاقم يوما بعد يوم، وترخي بظلالها على مآلات فنوننا وآثارنا وعمراننا وكل مشمولات الحضارة وميازيبها، من التراب إلى الماء، إلى الألوان والأشجار والتلال والوديان، حتى صار الحديث عنها ضالة المثقفين وسؤال المشككين الواجمين المسكونين بأقدار الوطن وأغلاله وشجونه.
وفي غمرة هذا الصمت القاتم، خرج مشهد افتتاح متحف جامع الفنا بمراكش، مترجما جزءا من هذه الرواية الساخرة، لتزيح الستار عن واحدة من غرائب مسؤولي ثقافتنا المغلوبة على أمرها.
والحكاية أن أصحاب السعادة، قرروا قص شريط افتتاح المتحف بجامع الفنا، دون حضور مثقفي المدينة وفنانيها. بل إنهم منعوا دخول رواد حلقات جامع الفنا، وأبعدوهم عن الوفد الرسمي المرافق للوزير ووالي الجهة والشخصيات الأخرى.
ولم يعلم أهل الكتابة والكتاب، عن أي شرعة سينتج تصريف هذا المشتل الثقافي الفني الجديد، الذي جاءت عبارات تقديمه حسب منشور تم تعميمه باللغة الفرنسية، أنه متحف للذاكرة الخالدة للساحة الشهيرة التي أوصت اليونسكو بإدراجها ضمن التراث العالمي، مستدرجة بذلك علامة الاعتراف بأهميتها لحفظ وصون الذاكرة الإنسانية وتقديم أيقونات ثقافية محفوظة، ترسخ أهمية سردياتها وشخوصها وأحوالها البشرية والعمرانية، ومشاغلها التاريخية اللافتة.
وتساءلت، مثلما تساءل غيري من أبناء هذه المدينة المغيبة عن محيطها الاجتماعي والثقافي والحضاري، عن أسباب تكريس هذا النوع من التدجين والاستخفاف والتدابر والتشويه، في موقع لا يسمح بهذه السلوكيات، ولا يتحمل أي تأويلات أو اختلالات، من شأنها أن تزيغ عن أهداف نسجت بأياد لا يمكن توصيفها تعميما تحت أي إكراه أو شائبة، بما ليس أهلا للمقام.
وحول التحقق من صحة بعض مشاهد الافتتاح، الذي وصفه أحد الفاعلين في دائرة المشتغلين على المشروع ب”الخروج عن التصورات”، أو “التيهان بلا خيال”، جرى حوار قصير بين سيدة مراكشية ومسؤول كان ضمن الوفد الرسمي، أنقله كالتالي:
ـ السيدة: اسمح لي سيدي،.. ألاحظ أنكم وضعتم على واجهة المتحف، لوحات كبرى لأسماء تشتغل في التجريد التشكيلي، وتستلهم أعمالها من ريبيرتوارات فرنسية محضة..
ما علاقة ذلك بمتحفية جامع الفنا؟
ـ المسؤول: لا علم لي بهذا الاختيار .. لكنني أجد ملاحظتك صائبة..
ـ أعادت السيدة صياغة السؤال قائلة: أعتقد أنني أفهم، ما يريده صاحب الفكرة؟..
ـ المسؤول: وما المقصود؟
ـ السيدة: لو تكون لوحاتنا الناطقة بأحوال جامع الفنا، وتاريخها وتحولاتها الثقافية والشفاهية، لكان أفضل .. لكن؟
لا يحتاج هذا الحوار إلى تفكيك أو بوليميك انتقادي، فقد كشفت الملاحظة الذكية، أن ثمة أشياء لا تعوزها سرعة البديهة، أو التدبر الفكري، مادام منطق المشروع يحمل في مدلوله أو كناش تحملاته، قائمة المواد والمثارات التي يجب عرضها والتعريف بها. فالأصل في إبراز الخصوصيات المحلية للثقافة التي تم رصدها، وتدوينها وإعادة تشكيلها، مرتبطة بشكل مباشر بساحة جامع الفنا. وكل جنوح أو تلف أو انزياح عن هذا المسار لا يمكن أن يمثل أدنى اعتبار لما تم التنصيص عليه في أدبيات ومسلكيات إدارة المشروع.
ومن عجب العجاب، أن يتم فعلا، إلغاء وثيقة مهمة، تم إدراجها في وثائق المعروضات السردية، التي تهم جانب التدوين والتوثيق الشفاهي لشخوص ساحة جامع الفنا ورموزه التاريخيين. ولا جواب عن أسباب هذا التحييد الفج سوى أن القائم مقام، صاحب الأمر والنهي في الآثار والمتحفية، لا يستسيغ النظم باللسان المغربي، أو رديفه العربي (على رأي المؤرخ الذي تعرض للحادث). الواضح أن كل لاغ (يلغي بلغاه)، ففي أتون كل مشهد من مثل هذه المشاهد، التي تتكرر في كل واجهات تدبير السياسات العمومية ببلادنا، يوجد شيطان يفعل ما يحلو له، ويتفكه بمن يتحومون حوله، مستعذبا فراغات الرقابة والتتبع لتدبير وعمل برمجي مقرون بالمحاسبة وتقديم التقارير الرسمية. لكن “ما يحدث مرة يمكن ألا يحدث ثانيةً أبداً، لكن ما يحدث مرتين يحدث بالتأكيد مرة ثالثة”.
إدراج ساحة جامع الفناء في الثرات العالمي لم يعد مبررا وليس له اي معنى، فلقد تحولت من فضاء للتغذية الفكرية والترفيهية الى ساحة للتغذية االبطنية ،و توقفت عن إنتاج لوحات مختلفة للفرجة ،واقتصرت فقط على الطبالة والنفاخةواجي نضرب لبيك الفال