( أصبحت فكرة الإنشقاق عن التراث هي المسيطرة على الحداثة ) رجيه غارودي ـ
يثير فضاء قصر البديع التاريخي بمراكش، الدرة المعمارية والتراثية الفريدة، نهما غير مسبوق من قبل مؤسسات اقتصادية وتجارية وثقافية عالمية. وخلف ذلك، تنجلي بالدلائل الملموسة والبراهين الساطعة، أهمية هذا المتحف الإنساني والكوني في أساس الحضارة المغربية السعدية، إن على مستوى الواجهة المتمثلة في الإرث الفني المعماري، الذي يخص جانبا مهما من سيرورة الدولة المغربية، أو ما يرتبط بالثقافة ذات التعدد التراثي المادي ببناياته وأشكاله الهندسية التي تترجم أنماطا عديدة الرؤى والمناهج، أمازيغية وعربية وأفريقية.
وفي كل مرة، نستطلع أخبارا على خلفيات مثيرة وغريبة، تلعب فيها ماكينة الإعلام الفرانكوفوني، أدوارا عميقة الدلالة، للترويج الإشهاري والتجاري، يجعل من مادة استلهام “قصر البديع” آية لصور وتصميم الأحداث، بوصفها عنصرا استراتيجيا من عناصر العملية الإعلامية.
ومن بين وظائف الترويج تلك، أن يبلغ القصر التاريخي “البديع”، موردا معينا ساعيا لعقل الثقافة اللغوية وضبط زمنها، ضمن فواعل ما أضحى يطلق عليه ب”صناعة السياحة”، التي يقع في عمق رهاناتها الكبرى، جعل الأثر الثقافي وتصويره بآليات مستحدثة، تستجيب لماركوتينغ تجاري متواطئ مع فواعل اقتصادية وتجارية وسياسية أخرى، تمارس إسقاطاتها على منظومة التأثير التكنولوجي والمعلومياتي بشكل رهيب.
وعلى هذا الحد الجديد من حدود الممارسة المتقاطعة، بين عالمين متناقضين، ومترابطين في آن واحد، لا يجد آكلو المطاعم المتنقلة والمراشف المتحنقة، أي مشكل لتوجيه سلطة إدارة وتوظيف الفضاءات التاريخية المادية، مع العلم أن النقاش الذي أثير ثمانينية القرن الماضي بأوروبا، حول توظيف الفضاءات التاريخية بالضفة الأخرى، كان مقتنعا تماما بمنع فعل ذلك، على الأقل في ظل غياب صيانة دقيقة وحرص لامتناهي على جعل التراث شكلا من أشكال المقدس، ونوعا واعيا بالتحصين والقدرة على وسم الحماية والاستدلال بها والتحسيس بها والنضال لأجلها.
إذا كانت ممارسة هذه المسؤولية، تحسم منطق التفكير وأهميته في تحويل الوجود الثقافي والتراثي، إلى فرع أصيل من شجرة الانتماء والهوية، فإن الاقتراب من مفهوم إدراج “التراث المعماري” وضمنه القصر الأسطوري (قصر البديع الذي بُني في نهاية القرن السادس عشر ، بناه السلطان السعدي أحمد المنصور السعدي شهورا قليلة بعد تولّيه الحكم احتفالا بانتصاره على البرتغاليين في معركة وادي المخازن عام 1578)، سيكتنز لا محالة، وحدة ثاقبة في بؤرة استقراء أسئلة العولمة ومشاكلها المتماهية، من حيث كونها تؤسس لفهم قوالب تطوير “الإعلام الإجتماعي” وجعله قطعة في باراديجم التسويق ، مسوغا لثنائية “المسوق و الجمهور المستهدف”، عبر تكتيكات التسويق التي تبحث دائما عن أماكن وفضاءات الفئة المستهدفة ومباشرتها عبر ألوية جديدة وأكثر فاعلية في سوق الترويجات.
ومنذ مدة ليست بالقصيرة، يحضى “قصر البديع” بهذا النوع من الاستهداف، ليس فقط عبر توظيف مهرجانات الفلكلور والغناء والسينما والمسرح وتقديم عروض السيارات، بل تتعدى ذلك إلى ما هو أدنى أو أقل بكثير، حيث يبتدع المستعرضون والعارضون سلعا منتقاة من صنوف “التحايل” و”الاستدراج” كتقنيات مستباحة في غاربة “الماركوتينغ” المعولم. ومع الأسف شديد الألم، فإن مسؤولينا في الآثار والعمران والثقافة، لازالوا ينتهجون أساليب دون مواجهة هذا السيل العرمرم، من التدجين والاستهلاك والتقوقع السطحي في لبوسات آلة الإعلام النقيض والواجهة التكنولوجية المتكورة. ونموذجنا في هذا الإطار ظاهر للعيان، تسجله ظاهرة تعايش مخيفة، مثلما هو الحال بالنسبة لإقدام شركة فيراري الإيطالية مؤخرا، على عرض السيارت الجديدة لفيراري “روما سبايدر” ، بإزالة الستار عن “روما سبايدر 2024 “.
ما ضريبة هذا التنمر العولمي التي سنؤديها نيابة عن أغبيائنا المتواصين؟
وهل تنفع الصكوك البلدية المفروضة، فتاتا حقيرا لا يصل لتراب أرضية القصر ومشمولاته التي لا تقدر بثمن، في ظل الاحتراب الواجم القائم بين نظرنا “للمعالم التراثية” كشكل من اشكال “الحضارة والتفوق” و”شرفة مطلة على غاربة متحلقة للأطلال”؟.
أليس من المعقول، أن نصون هذا الجزء الساطع من تراثنا وآثارنا الثقافية، بالإصلاح والترميم والتكييف التربوي والبيداغوجي، والمتابعة والتوجيه والتفرد؟
ذلك أن العالم يقع في الهاوية، مثلما يموت الموتى في سكون، إذا فرط في حياته الثقافية وذاكرته التاريخية. فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بروح الهوية ووعاؤها الحاضن للمستقبل؟.