كتب: منير الطاهري ـــــــــــــــــ
عادة ما تعتبر المناطق الجبلية في العالم أحد أشد المناطق حساسية للتغيرات المناخية والحركات التكتونية الزلزالية والبركانية والفيضانات وحرائق الغابات، لذلك أولت الحكومات في العديد من البلدان الديموقراطية مخططات تجهيز خاصة بهذه المناطق لضمان ولوجها أولا من طرف الاستثمارات السياحية والتجارية والخدماتية وتقوية قدراتها الذاتية على مواجهة الكوارث الطبيعية ثانيا، والأهم من ذلك حماية الاقتصاد الشعبي الجبلي والحفاظ عليه وتثمينه ليكون رقما حاضرا في المبادلات الاقتصادية على الصعيد الدولي.
سنحاول في هذه الورقة استعراض بعض التجارب لإعادة تهيئة المناطق الجبلية في جبال الألب والبيريني الأوروبية والتي سنعتمدها كنمودج مقارن لكشف التخلف الكبير الذي مازالت تعاني منه السياسة العمومية في المغرب لإعمار وتهيئة مناطقها الجبلية بجبال الأطلس والريف.
في كتابها القيم: كيف نعمر جبال الألب، الأساطير والواقع Aménager les Alpes : mythes et réalités حاولت الباحثة الجغرافية جيرماني فيرت فرنر Germaine Veyret-Verner وضع خطوط عريضة لحاجيات الإعمار الجبلية في منطقة الألب من منظور واقعي وإنساني معتبرة أن إعادة التعبئة لأغراض سياحية تتطلب حضورا قويا للدولة لتكوين الساكنة في المهن السياحية والفندقية أولا وما يقتضيه ذلك من عمل مؤسساتي ضخم لتسهيل انتقال المزارعين الجبليين من مهن الرعي والزراعة والصناعة التقليدية إلى مهنيين وفاعلين خبراء في المنتوج السياحي وصناعة المحطات السياحية وتشغيلها مع استثمار قيمهم الأصيلة في الثقة والصدق والتعامل الجدي المميز لأهل الجبال.
هذه الوثيقة المرجعية وغيرها كانت، بلا شك، حاضرة في القوانين والسياسات المتبعة في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي لتهيئة جبال الألب والبريني كذلك والتي ركزت على انخراط الساكنة الجبلية في الصناعة الشبكية السياحية وإدارة الوحدات الفندقية والمحطات السياحية وجعل السياحة اقتصادا شعبيا عصريا ومنخرطا في الاقتصاد الأوروبي من خلال ربط مؤسسات التكوين بهذا السوق السياحي الجديد وإعادة الجبال إلى أهلها المقيمين الفعليين.
إلى جانب ذلك ركزت هذه البلدان على تقوية البنيات التحتية السياحية بما يضمن سلاسة الولوج السياحي ويؤمن إمكانات التدخل في حالة الكوارث الطبيعية بواسطة محطات الهيلوستاسيون المنتشرة في هذه الجبال والطرق السريعة لتأمين النقل العمومي للمسافرين الحضري والبيمديني (الأطوبيسات) والخطوط السككية (القطار الأصفر في الجنوب الفرنسي) وبنيات تحتية قوية للنقل بالتليفريك مقاومة للزلازل والفيضانات بالإضافة إلى إرساء بنيات تحتية ملائمة عبر المجاري المنتظمة والقنوات لتأمين نقل نهري تكاملي مع باقي الأنماط النقلية، كما أصبحت هذه الجبال مركزا سياحيا مهما حيث تعد منطقة الرون- ألب ثاني وجهة سياحية في فرنسا من حيث ليالي المبيت في حين تم تجهيز أكثر من 200 محطة رياضية عالية التجهيز في الألب الفرنسي وكلها محطات مؤمنة الربط الجوي والبري مع انتشار مواز لشبكة قوية للإسعاف والتطبيب.
في المغرب، كانت علاقة الدولة بالجبال علاقة ملتبسة مند الحماية، وقد استمر هذا الالتباس حثى مرحلة الاستقلال، ذلك أن المعمر الفرنسي اعتبر هذه المناطق الوعرة خطرا محدقا على تطلعاته الاستنزافية لخيرات المغرب لكونها كانت تأوي مقاومة الجبال وجزء مهما من جيش التحرير المغربي، ما دفع الحماية إلى استنبات عدد مهم من المطارات العسكرية المحيطة بالجبال لمحاصرة الساكنة المقاومة وقصفها من الجو وهي نفس المنهجية التي كانت متبعة في مناطق الاستعمار الإسباني.
بعد مغادرة المستعمرين الفرنسي والإسباني للمغرب، وجدت الدولة المغربية نفسها وجها لوجه أمام مناطق جبلية وعرة ومأهولة بساكنة تعاني من الفقر والتهميش وغير متحمسة بما فيه الكفاية للانخراط في مشروع إعادة بناء الدولة العصرية، بسبب معاناتها اليومية مع غياب بنيات تحتية مماثلة لتلك المتواجدة بالسفوح والأراضي المنبسطة.
ذلك أن سياسات التعمير والتهيئة الترابية للمناطق الجبلية حافظت على نفس الرؤية الاستعمارية واستمرت في اعتماد مقاربة الضبط السكاني والتحكم في مسار المجتمع الجبلي كرؤية مرجعية ونواة صلبة لأي تدبير عمومي قد يتوخى الرؤية المندمجة والحكامة الجيدة والتدبير التشاركي للمجال، بشكل نكوصي تحفظي ومناقض لتطمينات الوثيقة التعاقدية نفسها أي دستور 2011.
الترسانة القانونية بدورها والموروثة عن المرحلة الاستعمارية باستثناء ظهير 1960 المتعلق بتنمية التجمعات القروية، ساهمت في تكريس هذا التصور خصوصا بعد فشل مشروع مدونة التعمير التي انطلق ورشها مند سنة 2005، والتي جاءت لتكريس تصور ضبطي للمجال الترابي ومراقبة سكانه وهو التصور الذي تمت مباركته من طرف النخب السياسية والاقتصادية الفاعلة محليا ووطنيا، وأصبح واقعا ملموسا بسبب إضعاف الجماعات الترابية واستعادة وزارة الداخلية لأدوارها التقليدية في ضبط المجال بواسطة رجال السلطة وأعوانها المحليين وعيون الاستعلامات والشؤون العامة وتطور بشكل لافت مع استشراء ثقافة الريع السياسي والاقتصادي كقاعدة لإعادة رسم العلاقة بين السلطة والنخب المحلية الثقافية الاقتصادية والسياسية.
كلها عوامل فرضت على أمر الواقع ظواهر البناء الغير القانوني والعشوائي وعدم تمهين الأنشطة الجبلية وغياب التأطير القانوني وإنجاز المشاريع السياحية والخدماتية بالمكالمات الهاتفية وطغيان علاقات المحسوبية بين الإدارة والفاعل الاقتصادي، كما أصبح الواقع الجبلي بفعل تفاقم الفقر والهشاشة وصعوبة الولوج إليه واقعا مغلقا بتناقضاته ومرتعا للتكسب السياحي والأنشطة غير المهيكلة.
إنه لأمر مخز أن يصدمنا زلزال الحوز بهذا الوضع المأساوي، ويعري واقعا مهمشا تعاملنا معه مند الاستقلال بهذا النسيان والتهميش، بسبب هشاشة البنيات التحتية والخدمات الأساسية
لأن هذه المناطق الجبلية مازالت تمثل رمزا تاريخيا وطنيا حاضنا لتراثنا التاريخي بمداشره وقصباته وثقافته المحلية ومجالا للتنوع البيولوجي يضم حوالي 80 في المائة من الأحياء المحلية .
سنكتشف مع هذا الزلزال أن الجهود المبذولة لم تتمكن من تقليص نسبة الأمية التي تتجاوز 47 في المائة من مواطني الجبال (مقابل 32 في المائة على المستوى الوطني) أو الرفع من الدخل الفردي للمواطن الجبلي والذي مازال يقل مرتين عن المتوسط الوطني، كما أن مساهمة هذا المجال المهم ( 25 في المائة من مساحة التراب الوطني، و7 ملايين نسمة و 70 في المائة من الموارد المائية و62 في المائة من الغطاء الغابوي) تظل مساهمة محدودة جدا، حيث لا تتجاوز 5 في المائة من الناتج الداخلي الخام، و10 في المائة من مجموع الاستهلاك الوطني.
ورغم التوصيات المهمة التي قدمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2017 فإن الدولة، حكومة ومؤسسات نيابية، لم تتمكن بعد من وضع قانون إطار خاص بالمناطق الجبلية كما أن قوانين المالية لم تتمكن من إدراج تنصيص خاص على استراتيجيات وبرامج لتنمية المناطق الجبلية؛
وكذلك ستستمر وضعية البنيات التحتية على حالتها الهشة والمؤسفة بسبب عدم تعميم ربط المناطق الجبلية بالمحاور الطرقية الكبرى، وعدم وضع تصور لتنمية أقطاب تنموية مستقبلية في المناطق الجبلية تصور يحدد طبيعة التجمعات العمرانية وشكلها ويضمن تعميم شبكات النقل والمواصلات والكهرباء والماء الصالح للشرب والتطهير ويقوي من إمكانات ولوج الساكنة الأكثــر هشاشة للماء الشروب، والتطهيـر السائل والطاقة الكهربائية والطاقات المتجددة،
كما سيستمر غياب الدولة كضامن للمرافق العمومية الأساسية بسبب تقاعسها في تطوير أنشطة اقتصادية كفيلة بإحداث فرص للشغل و تحسين الولوج للعلاجات، خاصة خلال فصل الشتاء، من خلال ضمان التأطير الصحي عن قرب وتعزيز التغطية الصحية الأساسية؛
كما أن الدولة نأت بنفسها عن توفير استقلالية أكبر للمؤسسات التعليمية بالمناطق الجبلية وتمكينها من وسائل عمل أكثر، وتوفير التدفئة بالمدارس وضمان ربطها بشبكة الأنترنيت.
وعلى مستوى التنمية الاقتصادية، ورغم أهمية التوصيات التي أصدرها هذا المجلس، فإن الواقع العملي أكد تخلفا كبيرا في توجيه الاستثمارات وبرامج التنمية نحو القطاعات الواعدة بالنسبة لكل سلسلة جبلية وركودا في تطوير المنتجات المحلية، والزراعات البيولوجية، ومنح العلامة المميزة للمنتجات، وتربية الأسماك؛ واستمر القطاع السياحي على حالته الفوضوية والمعيشية أمام تعثر جهود تحسين جودة الإيواء والرفع من طاقته الاستيعابية، وتحسين الجوانب المتعلقة بالتنشيط، والنهوض بتسويق وتنويع المنتوجات السياحية؛ إذ أن الدولة والحكومات المتعاقبة لم تتحرك للمبادرة إلى ابتداع مهرجانات جبلية وتنمية صناعات سياحية قائمة على الثقافة والإبداع.
وعلى مستوى التنمية المستدامة، مازالت جهود تقليص الفوارق المجالية و تثمين الموارد الطبيعية والتراث والاقتصاد الشعبي والاجتماعي والتضامني متعثرة وخجولة بسبب غياب إرادة فعلية للسلطات الترابية والمجالس المنتخبة.