نزار بولحية*
الجزائريون يسعون لاستعادة دور يرون أنه انحسر وتقلص في السنوات الأخيرة في المنطقة، لكن فيما هم يحاولون وبدرجة متفاوتة توسيع نفوذهم في ليبيا وتونس وموريتانيا، فإنهم يستمرون بالمقابل في بناء جدار عال وسميك بينهم وبين جيرانهم في المغرب.
وفي الداخل يبدو مهما للغاية أن يفكروا الآن وبعد ستين عاما من إعلان استقلالهم في لم الشمل. فأعتى الخصوم والمعارضين للرئيس عبد المجيد تبون قد يجدون أنفسهم اليوم متفقين معه، وعلى الأقل من حيث المبدأ على الفكرة التي تجدد الحديث عنها هذه المرة في افتتاحية مجلة «الجيش الجزائري» لشهر يوليو الحالي، التي مهرت باسم الرئيس، وتلخصت في دعوة الشعب الجزائري إلى «لم الشمل ورص الصفوف وتوحيد الجبهة الداخلية»، فبغض النظر عن تفاصيل أو خلفيات ما باتت تعرف بالمبادرة التي أطلقها تبون منذ نحو شهرين من الآن، ومدى تقبل الجزائريين لها أو تجاوبهم معها، لا يبدو أن أحدا منهم سوف يتردد في أن يشاطره الرغبة في أن يتم «كسب معركة التجديد التي نخوضها، لكسب الرهانات وتحقيق تطلعاتنا المنشودة في جزائر قوية شامخة وآمنة مثلما أرادها شهداؤنا الأبرار»، مثلما جاء في نص الافتتاحية.
غير أن تحديد طبيعة تلك المعركة وتصور الطرق والوسائل والخيارات الأمثل والأنسب لكسبها والنجاح فيها، تبقى المدار الحقيقي الذي قد يفرق اليوم بين الموالين، والمعارضين للنظام في الجزائر. لكن السؤال هو هل إن فكرة لم الشمل تبقى مناورة سياسية داخلية محدودة الأفق؟ أم إنها قابلة للتوسع أكثر والانفتاح على الخارج؟ وبمعنى آخر هل إنها تنحصر فقط في الداخل الجزائري، أي بين الجزائريين أنفسهم فحسب؟ أم إن دائرتها يمكن أن تتوسع، إن عاجلا أو آجلا لتشمل علاقاتهم كذلك بباقي جيرانهم وفي المقدمة الأقربون منهم؟ لقد كان لافتا أنه يوما واحدا قبل ظهور افتتاحية مجلة «الجيش الجزائري» التي تحدث فيها الرئيس تبون عن لمّ الشمل في الداخل الجزائري، كان وزير خارجيته موجودا في لبنان للبحث في عدة قضايا وموضوعات عربية، كانت من بينها مسألة لم الشمل مع النظام السوري، ورفع التجميد عن عضويته بالجامعة العربية بمناسبة القمة التي يفترض أن تستضيفها العاصمة الجزائرية خريف العام الجاري. وما قاله رمطان لعمامرة خلال مشاركته في اجتماع لوزراء الخارجية العرب في العاصمة اللبنانية، إن بلاده «لا تمانع في عودة سوريا لتشغل مقعدها في الجامعة العربية، وأن لا مشكلة لديها في ذلك»، قبل أن يضيف أن «الجزائر ستبذل قصارى جهدها لجمع الشمل وتقوية الإرادة العربية المشتركة من أجل رفع التحديات الجماعية»، على حد تعبيره. وفي السياق الإقليمي والدولي، بدا سعي الجزائريين نحو السوريين مفهوما، في ظل الروابط المتينة التي تجمعهم بحلفائهم الروس والإيرانيين، لكن إن كانت تلك الروابط والتحالفات قد تبرر أو تفسر رغبة الجزائر في أن يستعيد النظام السوري مقعده الشاغر في الجامعة العربية، فهل إن الخلافات والتوترات، أو حتى التناقضات الحادة بالمقابل بينها وبين جارها المغرب، تكفي لسد الباب نهائيا أمام أي مسعى للمّ شمل البلدين، وإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ ما يقرب العام؟ في مايو الماضي كان رئيس الدبلوماسية الجزائرية حاسما في الموضوع، حين قال في تصريحات نقلها التلفزيون الرسمي، إن قطع العلاقات بين بلاده والمغرب «لا يحتمل وساطات لا بالأمس ولا اليوم ولا غداً»، واضعاً بذلك حداً لما تداولته عدة مصادر إعلامية عن وجود ترتيبات، أو حتى وساطات عربية وأجنبية لجمع البلدين المغاربيين. ومع ذلك فإن لاءات لعمامرة الثلاثة بدت بعيدة جدا عن المنطق الذي تحدث به الرئيس الجزائري في نوفمبر الماضي، خلال مقابلة تلفزيونية قال فيها في معرض حديثه عن القمة العربية، التي تستعد بلاده لاحتضانها، إنها «يجب أن تكون جامعة، وانطلاقة للمّ شمل العالم العربي الممزق»، لأن «الجزائر دولة تجمع الفرقاء»، على حد تعبيره. فهل كان ممكنا أن يرفع فيتو في تلك الحالة في وجه بلد عربي وجار هو المغرب، ويستثنى اليوم وربما حتى غدا من جهود لم الشمل العربي، التي عبر الرئيس الجزائري عن سعيه لبذلها؟ لعل المؤلم في القصة الآن هو أن ذلك يحصل والجزائر تحتفل بالذكرى الستين لإعلان استقلالها. فكيف يمكن للمسؤولين الجزائريين أن يقنعوا شعبهم بفكرة لمّ الشمل في الداخل، ويقطعوا بالمقابل الطريق أمام أي محاولة أو مسعى لجمعه مع أقرب شعوب الشمال الافريقي إليه وهو شعب المغرب؟ ألا يبدو أن هناك تناقضا صارخا بين الأمرين؟ فهل سيكون منطقيا أن يطلب من الجزائريين أن يصفوا قلوبهم ويمدوا أيديهم لبعضهم بعضا، ثم يبقوا نار الأحقاد نحو جيرانهم متقدة في الصدور، ويرفضوا الرد على الأيدي التي يمدها هؤلاء لهم؟ أليسوا مطالبين بتقديم توافقات وتنازلات متبادلة في ما بينهم؟ فإذا كانوا مستعدين للتنازل لبعضهم بعضا من أجل المصلحة العاجلة لبلدهم ألن يكون حريا بهم أن ينظروا أيضا للمصلحة الآجلة له، ويقتنعوا بأن الجزائر ستزداد قوة وشموخا وعنفوانا بمغرب كبير موحد وليس بجزائر كبرى منفردة؟ إن الحجة التي قد يقدمها البعض هنا هي أن الخلاف الجزائري المغربي هو خلاف منهجي بين نظامين، وليس خلافا مبدئيا بين شعبين، تبدو واهية للغاية وبعيدة جدا عن الواقع. فمن يكتوي بنار الفرقة والانقسام والقطيعة بين البلدين غير الشعبين بالدرجة الأولى، وربما الوحيدة؟ لقد كانت ألعاب البحر المتوسط بوهران فرصة جديدة لتأكيد تلك الحقيقة المؤلمة. فالاستقبال الرائع للبعثة الرياضية المغربية في المطار الجزائري، كاد أن يكون نقطة انطلاق جديدة في مسار العلاقة بين البلدين، لولا أن الطريقة التي منع بها الصحافيون المغاربة من تغطية الحدث، أعادت الأمور على ما يبدو إلى نقطة الصفر. ولعل الانطباع الذي قد تركه ذلك هو أن هناك جزائرين اثنتين تتصارعان داخل الجزائر الواحدة، الأولى تريد وضع حد للخلاف مع المغرب، أو حتى التخفيف من وطأته، والأخرى لا ترى بديلا آخر سوى استمراره وبقائه إلى أمد غير معلوم. وحتى الآن فإن صوت الجزائر الثانية يبدو الأقوى والأعلى. لكن هل قدر على الجزائريين والمغاربة أن يعيشوا وبعد أكثر من ستين عاما من حصولهم على استقلال كان من المفترض أن يكون عن فرنسا، على انفصال واستقلال تام وشامل بات في الواقع عن بعضهم بعضا؟ الأمل أن لا تحيا الجزائر بمعزل عن جيرانها، وأن تتخلص من كل رواسب الفرقة والقطيعة التي تركها المستعمر بينها وبينهم قبل ستين عاما من الآن.والأمل الايكون لمّ الشمل مناورة تكتيكية داخلية محدودة الأبعاد؟ بل فرصة حقيقية لفتح آفاق جديدة لجزائر تستحق بالفعل أن يكون لها دور ريادي ومؤثر في المنطقة.
ـ عن صحيفة القدس العربي
*كاتب وصحافي من تونس