اتصلَ بي مباشرةً بعد أن زُلْزِلَتْ مراكشُ وأحوازُها يطمئنُّ عليّ وعلى العائلة. طمأنتُه وشكرته بحرارة. يوم 23 سبتمبر بعث لي على الواتساب رابط الحلقة الأخيرة من برنامجه “هنواتي” الذي تبثُّه مِنَصَّةُ “المشهد”. كانت حلقةً حول سدّ مأرب “الغامض والغريب”. كنتُ حينها في لندن أتأهّب لمغادرتها باتّجاه بروكسل. قلتُ سأشاهد الحلقة في اليوم الموالي وأتفاعل معه كدأبي. لكنّني تلقيتُ خبر نعيه صباح الأحد 24 سبتمبر عبر صفحة صديقنا المشترك شاكر نوري. موتٌ مفاجئٌ صاعقٌ أخْرَسني. رحم الله عزيزنا هاني. رحم الله الأديب والإعلامي الأنيق، ابن المدينة المُنوَّرة، هاني نقشبندي.
ثم ها هو موتٌ مُباغِتٌ آخر يأتي كالصّفعة. رحيل صاحب “الموت عمل شاقّ”. خالد خليفة كاتبٌ جميلٌ أحبُّه شخصًا ونصًّا. كنتُ مقتنعًا على الدّوام بأنّ الجوائز العربية لم تنصف خالد. لكن ها هي صفحات الفيسبوك اليوم فيما يشبه الاسْتفتاء المُتأخّر حول أهمّية مُنجَزه الروائيّ تُعيدُ له الاعتبار مؤكّدةً أن تجربة خالد خليفة الأدبية قد انحفرَتْ عميقًا في وجدان القرّاء. آلمني تخلّي قلب خالد الضعيف عنه فجأةً هكذا. لكن، لمن أرفع التّعازي؟ مباشرةً، وجدتُني أدخل صفحة صديقنا المشترك سيّد محمود، فأنا أعرف عُمق علاقته بخالد. قلتُ: لِأُعَزِّ سيّد ومن خلاله أعزِّي نفسي وكل أحباب الرّاحل. لكن سيّد سرعان ما ردّ التعزية بأحسن منها. كان ردًّا وفيًّا لروح خالد خليفة. وجاء على شكل صُورٍ لنا نمرح في أحد المسابح. مرحٌ صافٍ ذات يومٍ قائظٍ التقطَتْهُ عدسة سيّد محمود بشغبٍ أخويّ نقيّ. شكرًا أخي سيّد، وعزاؤنا واحد في الرّاحل العزيز.
رحيل أحمد شوقي بنيوب بدوره صعقني. كان شوقي مريضًا منذ زمن، لكنّ أحبابه وخلّانه لمسوا جميعًا عن قرب اسْتماتَتَهُ في مقاومة المرض. كأنّ المرض كتابٌ. كان يطوي كلّ مرّةٍ صفحةً من صفحاته ويعود إلى انشغالاته الحقوقية قبل أن يفتح له المرض صفحةً أخرى، وهكذا. الكتاب كلمة سرٍّ هنا. ذاك أنّي ما جالستُ أحمد شوقي بنيوب إلّا وكان هناك كتابٌ بيننا. في البداية روايتي “هوت ماروك” التي كان له إعجابٌ خاصٌّ بها. ثم كتابُه البديع “كذلك كان” الذي ألّفه بالاشتراك مع صديقه ورفيقه امبارك بودرقة والتي احتفيتُ به في “مشارف” بما يستحقّ فور صدوره. ثم هناك كتاب غامض لن يكتمل أبدًا جاءني بفكرته وشاءت الاقدار أن يرحل العزيز أحمد شوقي بنيوب ويرحل معه سرّ هذا الكتاب. تعازيّ الحارّة لآل بنيوب. ولك أنت عزيزي محسن عيّوش. فأنت الوحيد الذي يعرف سرّ الكتاب الذي لم يُكتب، وللأسف، لن يُكتَب.
في مراكش، ما زلنا نعيش تداعيات الزلزلة. حكايات الموت القِياميِّ المباغت تتردَّد في كل مكان. ستة آلاف تلميذ من دواوير الحوز التي دمّرها الزلزال نزلوا هنا إلى مراكش. وهم الآن موزَّعُون على أكثر من إقامة. لذا حين جاء أخي فضل الله من بوسطن يريد أن يتضامن مع ضحايا الزلزال، اقترحَ علينا الصديق محمد تكناوي من أكاديمية مراكش للتربية والتكوين أن نقتني لتلاميذ الثانوي نُسخًا من الرّوايات المُقرّرة لهم في دراسة المؤلفات. اقتنى أخي فضل الله الأعمال المطلوبة وذهبنا للقاء تلاميذ ثانوية “تينمل” التابعة لجماعة “ثلاث نْ يَعقوب” بإقليم الحوز. كان قد تمَّ ترحيلهم إلى إقامة المُدرِّس بمراكش. شرّفنا الحضورُ المفاجئ لمدير الأكاديمية، كما أبهجَنا التلاميذُ بإنصاتهم الجميل وشغفهم الهادئ. كان ضمن الكتب رواية فيكتور هيجو الشهيرة “آخر يوم لمحكوم بالإعدام” المُقرَّرَة لتلاميذ السنة الأولى ثانوي في مادة الفرنسية. ماذا ستقول ليافعين جاوَرُوا الموتَ للحظاتٍ ولكلٍّ منهم قريبٌ مقرّبٌ أو أكثر خطفه الزّلزال غدرًا؟ كيف ستُلَخّصُ لهم مُرافعةَ فيكتور هيجو دفاعًا عن حقّ محكوم بالإعدام في الحياة؟ هم الذين رأوا المنايا خبط عشواء تُميت كلَّ من أصابته دون مرافعة ولا دفاع.
ومع ذلك، كان علينا أن نحكي عن الأدب. عن الحاجة إلى الأدب في لحظات مفصلية كهذه. الأدب كملاذ. الأدب كأداةٍ لتوازُنِ الروح والوجدان.
لهذا نعود إلى الأدب دائمًا ونلجأ إليه. سأعود إلى “كذلك كان” لأقرأ صفحات من تاريخنا الراهن الذي كنتَ له كاتبًا وعليه شاهدًا يا شوقي. سأعود إلى روايتك الجميلة “اختلاس”، يا هاني، لأستعيد لقاءنا الأوّل الذي احتفينا خلاله معًا بهذه الرواية. سأعود إلى روايتك “الموت عمل شاقّ” لأتذكّر كم كنتَ عميقًا وشفّافًا يا خالد.
ياه، الموتُ عملٌ شاقٌّ حقًّا.. لكن، ليس بالنسبة للذين قضَوْا.. بل بالنسبة لمن أخطأهم الموت من الأحياء.. إنّهم أكثرُ عُرضةً لمشّقته، وهم مَن يشقَوْنَ به أكثر.
ياسين عدنان – 07 أكتوبر 2023