ـ الرُّؤى الاستشراقية لا تقيم في بطون الكتب ـ
حينما انشغلتُ بالاستشراق في الآونة الأخيرة، اعتبر بعض الأصدقاء هذا الانشغال نوعًا من التّرف الفكري. والحال أن الموضوع جزء من حوارنا اليوميِّ مع الغرب: وهو حوارٌ صعبٌ مُفخّخ بالالتباسات وبُؤر التوتُّر وألغام سوء الفهم. لكن بعد السابع من أكتوبر الماضي، وقف الكلُّ على أهمية هذا الحوار الفكري. فالصراع بيننا، وليس الحوار فقط، هو صراع سرديات ورؤى.
ثم إن الرُّؤى الاستشراقية لا تقيم في بطون الكتب، بل تسرّبت إلى حياتنا وصارت مُبرمَجة مُوجَّهة خصوصا عبر الإعلام والتلفزيون.
مبرّرُ هذا التأمُّل هو اشتغالي خلال الأيام الماضية مع فريق من قناة ZDF الألمانية يصوِّرون فيلما وثائقيا عن “أسطورة مراكش” كما تكرّست في المتخيل السياحي الغربي. وكانت لطاقم الفيلم وقفة مع السينما. ومع ألفريد هيتشكوك بالتحديد.
جاء هيتشكوك إلى مراكش في ماي 1955. جاء سنوات قليلة بعد الأمريكي ألبرت ليوين الذي صوّر بالمدينة الحمراء سنة 1952 فيلما تحت عنوان “السعدية” قدّم المغاربة في صورة الشعب البدائي المتخلف. وتضامنت جامعة الدول العربية مع المغاربة الذين كانوا يرزحون حينها تحت نير الاستعمار الفرنسي ولم يعرفوا كيف يردُّون على اعتداءِ فيلم ليوين عليهم. هكذا ندّدت جامعة الدول العربية بهذا الفيلم واحتجّت عليه. ولا شك أنّ أصداء هذه الضجة بلغت هيتشكوك حين كان بصدد تصوير فيلمه “الرجل الذي عرف أكثر من اللازم” في مراكش في مايو 1955، أشهرًا قليلة قبيل استقلال البلد في 56.
لذا صوّر هيتشكوك مراكش بشكل جيد. أفضل ليس فقط من ألبرت ليوين، بل من كل منتجي الأفلام الكولونيالية التي صوّرت مراكش في الفترة الممتدة منذ العشرينيات حتى أواخر الأربعينيات. كاميرا هيتشكوك أنصفت المدينة وأعطتْهَا صورًا قيمتُها التوثيقية أكيدة. لكن هيتشكوك ركّز بشكل أكبر على جامع الفنا لأنها كانت تهمُّه أكثر من غيرها. فهو رجل يحرص على صدْمِ مُشاهدي أفلامه المُشوِّقة بجرائم قتل تحدث في أكثر الأماكن حيوية وبهجة وأمانًا.
في الفيلم الكثير من الرؤى الاستشراقية ليس هذا مجال التّفصيل فيها. لكنَّ مشهد المطعم يستحقُّ وقفةً خاصّة. سأضعُ أسفل هذه التدوينة رابط هذا المشهد الشهير لنرى كيف تحوَّل مشهد المطعم إلى مشهد استشراقي غرائبي حاول فيه هيتشكوك الاستجابة لأفق انتظار الجمهور الغربي الأوروبي الذي يرى في الشرق بلد الأعاجيب، وكان يعتبر مراكش أقرب حواضر “ألف ليلة وليلة” إلى أوروبا. لهذا ركّز على التصميم التقليدي للمطعم بدءا بالزليج المغربي والأرائك الأرضية والموائد القصيرة والطواجين المنذورة للأكل الجماعي، مع تفاصيل من قبيل طست غسل الأيدي وطبيقة الخبز وما إليه. ثم يأتي الأكل بدون شوكة ولا سكين، بل وباستعمال ثلاثة أصابع من اليد اليمنى. والغريب أن المخرج جعل النادل يخرج عن الحياد والسلبية التي اعتاد هو وغيره من المخرجين الغربيين على تصوير الأهالي عليها، ليتحول النادل إلى شخص حازم يحرص على أن يغسل البطلان أيديهما قبل الأكل، ثم يؤكد للبطل على ضرورة الأكل بثلاثة أصابع فقط. أيضا هناك مُبالغة في التّظارف من قِبَل البطل Dr Ben Mackenna (James Stewart) وهو يُجهِد نفسه لإظهار صعوبةِ اندماجه في مجلس الأكل. وجد صعوبةً في الجلوس وصعوبةً في تقطيع الخبر واكتشف أنه من المستحيل الأكل باستعمال ثلاثة أصابع. طبعا كانت هناك إطالة في هذا المشهد، ورغبة في إضحاك المشاهد. الكوميديا مطلوبة، ما في ذلك شك. لكن ربما تمادى البطل في حركاته لإظهار سُخريته من غرابة هذا الفضاء وغرابة طقوسه، وهذا يعكس موقفا استشراقيًّا مفهوما في ذلك الزمن. ولعله هو موقف هيتشكوك نفسه.
عدتُ مع فريق العمل الألماني إلى مطعم دار السلام الذي صُوّر فيه مشهد المطعم في فيلم هيتشكوك، وإلى ساحة جامع الفنا التي صُوّرت فيها جريمة القتل. كنا نتعقّب آثار هيتشكوك وأبطاله. وفي الحالتين كنت أحاور رؤى استشراقية مزدوجة: قديمة لدى هيتشكوك وطاقمه، وأخرى حديثة لدى الطاقم الألماني الذي تعاونتُ معه. وتلك حكايةٌ أخرى لا يحقُّ لي الخوض في تفاصيلها قبل انتهاء العمل وبثِّ الشريط الوثائقي على الشاشة. وإلى ذلك الحين، علينا أن نظل يقظين على الدوام، مستعدين لفحْصِ كل الخطابات التي يتقدّم بها الآخر إلينا. فليس هناك اليوم من خطاب بريء سواءٌ تعلق الأمر بالسياسة والديبلوماسية، أو بالثقافة والفن والإعلام.
لكن، ما دمنا عاجزين عن إنتاج صور وخطابات قوية نافذة تنقل صوتنا وسرديتنا ورؤانا الى العالم مباشرة، فعلينا أن نقبل بالإقامة الدائمة في محاولات اختراق خطابات الآخرين هكذا عبر الهوامش. هوامش صغيرة مع الأسف. لكن التسلُّل منها يبقى أفضل من الانكفاء على الذات والاكتفاء بلعْنِ الظلام.