من عبد الواحد الطالبي – مراكش
قادما من دهاليز السياسة ودواليب الحكم في دولة الكويت الشقيقة، إلى مراكش محمولا على الشغف بثقافة الصحراء متيما بكل ما هو أصيل، أتى نايف عبد الله الركيبي المدينة الحمراء مأسورا بشفق الغروب بين النخيل وفي الشوارع والدروب فهام هيام العاشقين المولهين، وتاه تيه مجانين الحب حتى شد مهوى الفؤاد وتدَ وثاقه بأرض الرجال السبعة الذين سبقوه إلى مراكش.
منازلَ كثيرة نزلها نايف الركيبي في كل مكان بالعالم بين الشرق والغرب وفي أوربا وأفريقيا، وسيَّر شراعَه إلى مرافئ عديدة، وجال في الأرض فما بَعُد عن دار الموطن ولا اصطبر للبيْن عن الكويت وما عن أهله جزع، حتى أسلمته الرحلة والأفضالُ من خلف، إلى المغرب الذي لم يكن يزوره سوى مبعوثا أو مرافقا في مهمات رسمية لم تسعفه في اكتشاف أسرار هذا البلد إلا بقدر اكتشاف العابر.
وحين جاء مراكش، أحاط به سرادقُ السحر من جاذبية اللون والرائحة، وبثت فيه الحمراء من روحها ما يبعث الناقوسُ في النساك فهفا قلبه لها وأنكر كل الذي كان صبابة ووجدا لِما قبْلها، فلا بيروت ولا روما ولا باريس وكل عواصم الدنيا إلّاها، هي وحدها نأى بها عما عداها لما نبضت بين الجوانح بخفقة الحنايا أسرارا لا جواب لها في يوم أو يومين ولا أسبوع أو أسبوعين إلا أن تطول مدته.
فضول نايف الركيبي بنهم شرِهٍ للمعرفة والاكتشاف، أطال إقامته بمراكش حتى استقر فيها وتوطن، اسئلته الكثيرة المتوالدة التي تتكاثر من سرعة بديهته وحدة ذكائه وجذوة نباهته ودقة ملاحظته وقوة الفراسة لديه والتي تغذيها غزارة الثقافة وخميرة التجربة وشدة المراس في الإعلام والسياسة والحكم، بحث عنها في كل التفاصيل والجزئيات التي لا يترك فيها ركنا لكمون الشيطان.
ليست أهمية الجواب عند الركيبي على قدر أهمية السؤال، لأن مراكش بالنسبة إليه سؤال كبير محير، والجواب عنه محال، وحين أدرك كُنْه المدينة الحمراء همَّ بملاحقة الأسرار التي تقوده إلى خفايا الجمال الساحر الذي خلب ألباب العالمين في مدينة تسكن الناس قبلما يسكنوها وتستقر في قلوبهم قبلما يتخذونها وطنا.
وما كادت تمضي أيام قليلة في أعقاب زيارة سياحية سريعة إلى مدن عديدة في المغرب، حتى قرر واختار مراكش مدينة لدار القرار فيها يريح من عناء عمر حافل لا يقاس بالسنوات والأعوام ولا بالأيام والساعات ولكنه بما شاهد وعاين ومن التقى ورافق وبمن صاحب وصادق وكذا ما عاشه من الأحداث والوقائع، يحتسب بقرون زمنية.
لم يغن أبا عبد الله الركيبي الإعجابُ منفردا بجمال مراكش وبهجتها، فطفق يدعو لها في المحافل والمخامل من الأمراء والشيوخ ورجال المال والأعمال ومن السياسيين والإعلاميين والمثقفين والفنانين، يستضيف أطيافا من بعد أطياف يجعلهم يعشقون المدينة يميلون نحوها ميل الهوى الذي حكم أن يصير لأغلبهم في مراكش سكن ومقر.
ويغدق الركيبي على فن العيش المغربي بكل مظاهره، بإسراف ثقافي يجود فيه بخيرة المتمرسين الذين خبروا أصول هذا الفن، حريصا على حسن استعماله ودقة توظيفه وفق الطقوس المرعية والأعراف الاجتماعية المتوارثة في البيوت الكبيرة، متمسكا بالتقاليد التي لا تنزاح عن القيم العربية الإسلامية ومبادئ الأخلاق بشروط الاحترام الواجب في تواضع الشامخين.
ويمضي نايف ابو عبد الله، بلا مَنٍّ يسير سير الراكب العنِف، يسد في مراكش الفقر يغشى البيوتَ من منزله الكرم، يَشيدُ المساجد للذي يقم بها، سخي بالجود للناس قاطبةً حتى إن الناس ترمي كفَّهُ السمحَ في الأفضال بالسرف، وهو إذا ما دعاه واجب، وجدته سباقا للمعروف بأثر كأنه من ذوي السبق الذين بجليل أعمالهم وإحسان أفضالهم في مراكش خلدوا.
ولشدة ما صار صبّاً يستحكم به جوى المدينة الحمراء، استبد في كلامه ونقاشه الحديث عن مراكش في تاريخها وحضارتها وكرم أهلها وبساطتهم وتواضعهم وفي طقس واعتدال هوائها وفي جمال مناظرها وتنوع طبيعتها وفي الفرص التي تتيحها للاستثمار وللاستقرار وكل ما يتعلق بها وأخذ من الركيبي وقتا طويلا للتقصي في شأنه والتعمق فيه والحديث به عن خبرة وتجربة وأحيانا عيانا.
وبلغ بنايف الركيبي حب المغرب وعشق مراكش أنه ما عاد يلبس إلا مغربيا جلبابا وبرنسا وقفطانا وقلنسوة ويتعمم كما يتعمم المغاربة وينتعل مثلهم…كما يأكل مغربيا ويفترش مغربيا ويستمتع موسيقى مغربية أندلسيا وملحونا، ويتكلم مغربيا ويسرى في شريانه هوى المغرب مختلطا بدم الكويت الشقيقة التي وفد منها الى مراكش عن طريق أبي عبد الله جماعات وأفرادا من كبار القوم وعلية المجتمع الخليجي، اتخذوا مراكش لهم سكنا.
واستحق نايف عبد الله الركيبي لقب سفير فوق العادة للمغرب ولاسيما لمراكش في كل دول العالم وخصوصا في البلاد العربية وعلى الأخص في دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.