دعا جان جاك روسو قبل قرنين ونصف في روايته الشهيرة “هيلويز الجديدة“، إلى تمكين العقلاء من تدبير خلافاتهم، وإلى جعل القدرة السليمة على النقاش، مسارا لتوحيد الرؤى وتكسير الخلافات.
استقى الفيلسوف الفرنسي روسو نظريته تلك، من مبدئية التركيز على تنويع أساسات العمل المجتمعي، انطلاقا من الاستماع لرأيه والعمل بقيمه، وهو ما تمت تسميته ب”الرأي العام”، حيث من المفروض أن يفعل المرء ما يمليه عليه المجتمع فقط، طالما تماشى ذلك مع “المبادئ والأحاسيس السرية” للمرء، وطالما اتسق ذلك مع لب هويته، و”السلوك غير الأصيل سيمهد الطريق لتدمير الذات”.
وتطورت نظرية “الرأي العام”، وصارت “ديمقراطية تشاركية” و”إدماج مجتمع مدني”، ومع أن كل هذه المبادئ استقيت من فلسفة سياسية اشتراكية تحررية، ولا تعكس الصورة الحقيقية للمثالية الأخلاقية في عصرنا الراهن، إلا أن قيمها ومعاييرها لاتزال محط نظر ونقاش، تبتدئ من تربة الغرس، وتنتهي بالحصاد قبل الأوان. فالذين رفعوا الشعارات، وهللوا لها وأداروا مفازاتها، كانوا يستلهمون حدود الفعل السياسي ومنطلقاته، من علاقاتهم المصلحية الظرفية للعمليات السياسية. والمتجذرون في دهاليز التفريخ السياسي والتنميط الانتهازي، كانوا ولا يزالون يثيرون إشكالية “الرأي العام”، على أساس التصريف التاريخي للمفاهيم المتصلة بالعمل النضالي التطوعي، واحتياجاته ذات الاتجاه التقليداني، المتاخم لطاعة الزعيم والاعتقاد بطريقه والإيمان بميراثه.
فهل تقطعت السبل الآن، على هؤلاء وأولئك، في سياقات ثقافية وسياسية جديدة، انتقلت فيها مفاهيم الخطاب وتنويعاته، خصوصا فيما يتعلق بأساليب الإقناع والحجاج اللسانية والعاطفية، تزاوج بين فهم “الرأي العام”، وإغفاله، والامتثال لرهانات تصنيفات “قابلياته” و”اجتزاءاته” العقلية والدافعية؟.
هذا جزء صغير من تحليل الراهن. والمتكيفون معه، يدركون تماما كيف يثير الإعلام أشكال “الرأي العام” وضوابطه الأخلاقية والمجتمعية، في ضوء فوضى الخطاب الذي تقوده كبوات “منصات المواقع الإجتماعية” التي لا تحمل من صفة التواصل غير الإسم.
ولما كانت السياسة العامة وظيفة استراتيجية في الوظائف الحكومية، فإن صنع هذه السياسة العمومية بات متعلقا بشكل أو بآخر بالرأي العام. أو لنقل، إنه وحدتهما داخل أنساق العمل السياسي الحكومي، بات مقصدا معيبا للعلاقة السببية المشوهة، التي تزعم امتلاك طفرة التوظيف الفاسد لشكل الثقة الممنوحة من قبل المجتمع للفاعلين السياسيين، في مجتمع تتوحد فيه كل المتناقضات، وتتحالف بين أضلعه كل الالتباسات.
وتستعصي حالة التوظيف تلك، عندما انزاحت غمة التشكيل الحكومي بمغربنا، على قاعدة نتائج صناديق الاقتراع، حيث يشارك التكنوقراط في المؤسسات التنفيذية التي تتمتع بحماية أفضل من الضغط العام ، وهي كما يقولون الأقل عرضة للمساءلة من الناحية الديمقراطية.
وعلى منهج الابتداع الجديد لأنماط خطابية ذات أبعاد سياسية براغماتية، عملت التكنولوجيا المعلوماتية الحديثة، على شحن الرأي العام الجديد، وجعله تبيعا ونافذا في أجندات السياسات العمومية، و”تحت آثار أزمة دولة الرفاهية”، والتي صارت بديلا كونيا في عالم القمنة المتسع، انخفضت أسهم “الرأي العام”، وبدأ المواطنون يفقدون ثقتهم في العملية الديمقراطية، بعد أن اكتشفوا أن تصويتهم غريب عن القرارات التي تؤثر على حياتهم.
باختصار، السياسة ليست بيد الرأي العام، ولا بيد صانعي قرارات “الرأي العام” المندس بين أروقة وأجنحة الساسة والأحزاب، بل هي من اختصاص الدولة وماكيناتها المتحالفة مع كل شيء، مع الأحزاب والمثقفين وعلماء الدين والمستثمرين، وحتى الإعلاميين.. إنها نفق مظلم من اللاعقلانية اللامحدودة ؛ كمن يخاطر بجعل العالم المعيش وجها من وجوه الغابة، يطلق صافرة لترويع الطيور، لكنه يصطدم بارتطام الوحوش وعنفهم الشديد؟.