( على هامش إحداث “مشروع قانون لتشكيل لجنة مؤقتة للإشراف على قطاع الصحافة والنشر بالمغرب”)
سرت حرب بيانات بين نقابات وهيئات إعلامية، وما تلاها من مواقف حزبية أخرى أهمها ما صدر عن حزبي “التقدم والاشتراكية” و”العدالة والتنمية”، حول مشكل إقدام الحكومة المغربية على إحداث “مشروع قانون لتشكيل لجنة مؤقتة للإشراف على قطاع الصحافة والنشر”، بعد انتهاء صلاحية الهياكل المجلس الوطني للصحافة، وتعويضها بالإعلان عن تشكيل “لجنة مؤقتة” مدة عملها عامان كاملان. ولم تنته بعد هذه السفسطات الجارفة، التي أبانت عن ضيق أفق وضعف ديمقراطي غير مسبوق، في مجال لازال بعيدا عن التغيير.
كل ما قيل عن زيغ الحكومة، وتدخلها الشنيع في التنظيم الذاتي للإعلاميين وخروجها المفلس عن المنهجية الديمقراطية، صحيح لا مراء فيه ولا اختلاف. وما تلا ذلك من تأويلات تخص مسألة الإبقاء على حالة الغموض القانوني للمجلس الوطني للصحافة وانتخاباته، وكذا تأخير إصدار النظام الأساسي للمجلس إياه لمدة تجاوزت سنة ونصف دون أي مبرر. لكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، ويتمخض عن جملة من الاختلالات التي باتت تؤرق المهنيين وتقض مضاجعهم، لاسيما مسألة دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، التي باتت تعاني خنقا وحصارا يهدد بإفلاسها، بل وإعدامها نهائيا.
وبغض النظر عن دفوعات مناهضي مشروع الحكومة، التي تتماهى مع ما يصفونه ب “تزكية الجهاز التنفيذي لمشروع قانون لجنة تسيير غير دستوري وتراجعي ومسيء للمهنة” و”استهداف للصحافة الوطنية واستقلاليتها وطموحات تأهيلها وتكريس تعدديتها”، فإن ما جرى تسريبه، وأكدته بيانات المنظمات المهنية، حول ما قيل عن استحواذ المؤسسات الخاصة الموالية للسلطة، عن نسبة 90 بالمائة من ميزانية الدعم خلال الثلاث سنوات السابقة والتي تقدر ب(50 مليار سنتيم)، هو طامة عظمى وحماقة بعينها. إذ لا يعقل أن تتم صفقة الدعم تلك، بكل خلفياتها السياسية والديماغوجية، وما رافقها من إفساد ووساطة ريع وإخلال بالقوانين، دون أن يتحرك الساكنون وينتفض الضحايا. بل ننتظر حتى قيام ساعة تمرير المشروع المدموم، ثم نلغو مع اللاغين ونصطف مع المصطفين، دون تبيان أصل القضية وأسبابها ومسبباتها؟.
إن واقعة محاولة تمرير “مشروع قانون لتشكيل لجنة مؤقتة للإشراف على قطاع الصحافة والنشر”، تحيل إلى مدى اتساع الهوة بين طرفين متنافرين، أو هما متصادمين، في واقع يكرس شوفينية وأنانية غير مفهومة، حيث تختفي المدافعات الأخلاقية التي لطالما كانت عناوين لكليشيهات منذورة، جمعت كليهما في مناسبات متعددة. فأصدقاء الأمس، صاروا الساعة أعداء، وحازوا على قوة الحوار بالوكالة، ويمتلكان أدوات هما على دراية تامة باستعمالها وتطويعها، وفقا للظرفيات والحواسم والأولويات؟.
هل كان من أقدار هذا الزمن البئيس، الذي اختلطت فيه “أخلاقيات الصحافة” بعوادم السياسة وتدبيراتها العمومية، وما انحرفت به مشاهد الفاقة والخسران، بعد توالي المصائب وامتدادها على أكثر من صعيد، أن نصدم بواقع هذه الإساءة العميقة لجسمنا الإعلامي، لمعرفتنا المسبقة، وبشكل قطعي أننا نعيش حالة وعي شقي بين النظريات والوقائع، بين الحقيقة التي يرفضها القانون والدستور والمنطق والضمير المهني، وضد ذلك، من تزييف الرؤية وإشاعة الرداءة والقبح وتقويض المكتسبات وإقبار الأمل في المستقبل؟.
لا حاجة لجلد الذات الآن، ولا نقدانية لتصحيح ما شاب الجسم الإعلامي، من مصائب وخرائب، فقد أنفنا من ردود الأفعال وتداعياتها، ومللنا من “كلام القيم” و”وجاهة الحكم” و”اقتدارية العقل”..
الذين صمتوا بالأمس، لأنهم كانوا ضمن فريق المنتفعين، وصرخوا متأخرين، بعد أن طالتهم يد الإقصاء والتحييد، لا يأتون اليوم ليظهروا لنا مدى صدقية أحجتهم وبراهينهم ..
كنا سنوقد أيادينا شموعا لاستصراخهم، ونصغي آذانا وعقولا لمحاذريهم واحترازاتهم. والحال أن اليقظة المتأخرة تصيبنا بالحسرة والضياع والتلهف والإرهاق، فالهروب إلى الأمام أولى وأحجب، والعزلة عن كل ذلك ضرورة وتمرد عن شغال عديم وغفلة طارئة.
وصدق الشاعر إذ يقول :
تقطَّعُ نفْسِي حسْرة ً بعْد حسرْة ٍ … إذا قيل: تغدو من غدٍ لا تعرجُ
وآخر أبلغ في ذلك قائلا :
يعللني تحت العمامة كتمه …. فيعتاد قلبي حسرة حين أحسر