بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر، الذي يوافق 18 دجنبر من كل سنة، وكما دأبنا على ذلك من قبل، نستحضر بشكل استثنائي هذه السنة، شريحة اجتماعية من المهاجرين المغاربة بفرنسا القاطنين بالتجمعات السكنية الجماعية/ أحياء سكنية يقيم بها العمال المهاجرون..يتقاسموها مع مهاجرين من جنسيبات مختلفة..
هذه الأحياء السكنية Les Foyers des Travailleurs Migrants en France ليست كباقي المساكن الأخرى، فهي تؤلف تجمعا سكنيا متعدد الجنسيات من خمس أو ست طبقات..توجد في كل طبق غرف منفردة صغيرة جدا ( لا تتعدى مساحتها 4.50 م2)، ومراحض صغيرة، وأحواض إستحمام مشتركة، بالاضافة إلى قاعة متوسطة الحجم للطبخ، يوجد بها مخزن صغير، لكل قاطن بالحي، لترتيب وتخزين أغراض واحتياجات المطبخ من أواني وأطعمة وغير ذلك..
وتعتبر هذه الأحياء العمالية جزء من تاريخ وذاكرة العمال المهاجرين في فرنسا منذ عام 1945، حين وصلوا بمفردهم إلى فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية لتعويض النقص في القوى العاملة الذي واجهته الدولة الفرنسية أثناء “الثلاثين المجيدة” ( 1946-1975) Les Trente Glorieuses
خلال هذه المرحلة، شجعت فرنسا الهجرة الأجنبية والهجرات الكولونيالية التي كانت تخضع لمؤثرات سياسية واقتصادية داخلية وخارجية، ومن بينها الهجرة المغربية المكثفة في مرحلة أولى، ابتداء من عام 1960، حين كانت فرنسا، هي الأخرى، تمر بعدد معين من الأحداث السياسية التي حصلت منذ عام 1958 (فشل انقلاب 13 ماي العسكري وعودة الجنيرال ديغول للسلطة، والنزاع الجزائري الذي كان قد أوشك على نهايته في بداية ستينيات القرن الماضي).
ومع نمو الهجرة بسبب الحاجة الكبيرة إلى الأيدي العاملة، واجهت فرنسا أزمة سكن حادة، امتدت بشكل خاص إلى الفئات الأكثر حرمانًا مثل العمال المهاجرين الذين غالبًا ما كانوا يعيشون في ظروف بئيسة في الأحياء الفقيرة والبراريك والأقبية وردهات الفنادق ومدن الصفيح التي رأت النور على أطراف المدن الكبرى كباريس وغيرها (مثال ضاحية نانتير).
في سنة 1956، قررت الدولة الفرنسية تولي مسؤولية قضية إسكان العمال المهاجرين عبر خلق الشركة الوطنية لبناء المساكن للعمال SONACOTRA وتسمى اليوم “أدوما” ADOMA، ومع توافد العمال الأفارقة في هجرات متتالية، أنشأت أحياء سكنية جديدة مثل”أفطام” AFTAM أو “سونديطا” SOUNDIATA خاصة بهؤلاء، كما ظهرت أحياء جديدة أخرى في مدينة ليون وفي مدن أخرى، يديرها بصرامة الضباط المتقاعدين أو مدراء من الشرطة الذين كانت لديهم وظيفة عسكرية ( السرير يجب أن يكون في غاية الترتيب و قواعد صارمة حسب القانون الداخلي).
هذه الفضاءات، ظلت لأكثر من عقدين من الزمن مغلقة، تعكس الفوارق الاجتماعية القائمة بين العمّال المهاجرين و أبناء البلد، وتوحي بعدم الاستقرار والخطر وانعدام الأمن وتعكس عقلية التمييز والاهمال، إلى أن اندلعت اضرابات الغضب منذ 1970، للمطالبة بأحياء سكنية إنسانية و أكثر أماناً وانفتاحا على المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهو ما فرض على الدولة، ابتداء من 1995 الشروع في احداث اصلاحات بهذه الأحياء وتحويلها إلى إقامات اجتماعية وبناء أحياء سكنية جديدة Des Résidences sociales.
ونحن نستعد للاحتفال باليوم العالمي للمهاجرين، نغتنم هذه المناسبة لتسليط الضوء على هؤلاء المغاربة المهاجرين، الذين أجبروا على السكن في هذه الأحياء مؤقتا، لتصير غرفهم إقامة دائمة إلى حدود اليوم..فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ويقاوم الغربة، والهشاشة، وسوء التغذية، والحرمان العاطفي، و الوضع الصحي والمادي والاجتماعي والنفسي الصعب وفقدان الاستقلالية، بعد أن خاب أملهم في استئجار شقة لاستقدام عائلتهم وأبنائهم الذين بقوا في البلاد، أو العودة لمسقط رأسهم..
إنها أسطورة حقيقية من المعاناة، أبطالها ليسوا سوى مغاربة أرغموا على الاغتراب و الغياب المزدوج، بحثا عن مستقبل أفضل، في الوقت الذي كان الجميع يعتقد أن هؤلاء سيعودون في نهاية المطاف إلى بلدهم الأم محملين بالنقود والهدايا، لذا حرموا من الإدماج، وظلوا على هامش بلد الهجرة والبلد الأصلي.
هؤلاء لم يستطيعوا أن يصبحوا فرنسيين (لاعتبارات تاريخية واجتماعية وثقافية) ولا يشعرون أنهم مغاربة أيضا بسبب غيابهم الطويل عن مسقط رأسهم وعائلاتهم، مثلهم مثل العديد من المهاجرين من أصول مختلفة.
إنهم “منفيون” جدد.. لم توجه لهم أي تهمة باﺭﺘﻜﺎﺏ جريمة، ﻭﻟـﻡ يحاكموا يوما ما..ذنبهم الوحيد أنهم حصلوا على بطاقة الاقامة، ولم تكن لديهم النية ولا المقومات للبقاء في فرنسا، فنسجوا علاقة من التبعية الاقتصادية للبلد المضيف وللبلد الأصلي. فعندما يكون لديهم إمكانيات تسمح بإرسال النقود لأفراد العائلة، فهم لا يبخلون بِما أتاهم عرق جبينهم.
ورغم حياتهم الصعبة، فهم لا زالوا يعتقدون أنهم مفيدون لعائلاتهم ولوطنهم. فهم اختروا البقاء قسرا لعدة أسباب منها: عدم التمتع بتقاعد مريح يسمح لهم بالعيش في بلدهم قرب العائلة، مسؤولية إعالة الأسرة، الاستفادة من النظام الصحي، ألفة الأصدقاء.
“المنفيون” الجدد.. أعمارهم تجاوزت 60 عاما..يعشون اليوم تحت هاجس خوف الموت بينما هم أحياء يرزقون..
تحية لهؤلاء بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر..
المصطفى المريزق/ أستاذ التعليم العالي بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس
ـ باحث في سوسيولوجيا الهجرات بكلية الآداب والعلوم الإنسانة