أذ/ عبد الرحمن أوسليمان:
ملخص المقالة التي كانت مؤلفة من تسع صفحات للباحث الدكتور عبد اللطيف محفوظ:
بدأ عبد اللطيف محفوظ مقالته بالإشارة إلى أهمية الموضوع الذي عده انشغالا للجميع، مبديا تحفظه على استعمال مفهوم “الاستهلاك الثقافي” لأنه لا يصدق إلا على توصيف ما يجري بالمجتمعات التي لها تقاليد استهلاك المنتوج الثقافي، تلك التي تنشط فيها المسارح ودور السينما ومتاحف الفنون… وتعد القراءة فيها سلوكا يوميا وغذاء روحيا لا غنى عنه… هنا في المغرب، بضيف، يصعب أن نتحدث عن الاستهلاك الثقافي، لأنه لا يتصل بوجود حركة اقتصادية مرتبطة بالثقافة، فلا وجود لمتحف تكلفنا زيارته تذكرة غالية الثمن، وساعات من الانتظار في طابور طويل. نحن، يضيف محفوظ، لا نمتلك إلا عددا قليلا من قاعات السينما ومن المتاحف. وليس لدينا مؤسسات حقيقية تتولى تدبير الشأن الثقافي بشكل معقلن، ووفق استراتيجية واضحة من أجل السعي إلى الرقي بالخيرات الثقافية، وتحويلها إلى منتوج استهلاكي متاح للعامة.. لكل ذلك تحفظ على استعمال “الاستهلاك الثقافي” في توصيف النشاط الثقافي بالمغرب، لأنه لا يشكل لحد الآن مجالا فعليا للنشاط الاقتصادي، وقد أعاد هذا الوضع إلى فشل المجتمع في جعل الحاجات الثقافية مترسخة في ذهن الناشئين، وفسر ذلك بعدم كون الاستهلاك الثقافي من بين أهداف البرامج التعليمية ومضامينها، ونظرا لسيادة تربية تنهى الناشئة عن أي نشاط جسدي أو فكري يشغلهم عن المقررات…، وأساسا لعدم وجود فعلي لمؤسسة ثقافية تتولى تحقيق ذلك. معتبرا المؤسسات الموجودة مجرد مؤسسات للتدبير الإداري وتوفير قسط من الدعم.. لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن موضوع الاستهلاك الثقافي للكتاب الفكري والأدبي، معتبرا أن الموضوع يفرض الاهتمام بكل الأطراف، فهناك الكاتب، وهناك الناشر والموزع وأخيرا القارئ، وكل هذه الأطراف تفتقد إلى العمل في إطار مؤسسة، والذي يقتضي، من بين ما يقتضيه، وجود مشروع مدروس له غاية، شرط أن تكون الغاية مرتبطة بتحويل الوعي القائم من أجل البلوغ إلى تشييد وعي ممكن هو مناط الغاية الاجتماعية.. وقد لاحظ بخصوص دور النشر الفاعلة في المغرب، أنها في ملك الخواص، ومن ثمة فإنها خاضعة لتوجهات أصحابها، وأنها تشتغل في الغالب بدون برنامج واضح وبدون هدف، وأن العامل الحاسم في اختياراتها محكوم بهاجس الربح، ويحتم عليها ذلك إما اختيار أسماء معروفة بارزة، وإما موضوعات حيوية، تتصل بالإثارة، وتساير العابر. ويرى أن هذا الصنيع ينعكس على بقية الإنتاجات الإبداعية أو الفكرية التي لا تستجيب للمعيارين السالفين (الشهرة والإثارة)، والضحية ليس هو الكاتب المطلق ولكن الكاتب الشاب أو المغمور، سواء أكانت إنتاجاته جيدة أم لا. فالناشر، في المغرب، مهووس بالربح. ومع ذلك فإن الربح المرتجى لا يتحقق، في الغالب، بشكل مضمون عندنا إلا بالمتاجرة في المقررات الدراسية والكتب الموازية لها، لذلك تلتجئ دور النشر إلى الكتاب المدرسي أولا، وإلى الكتاب الموازي ثانيا. ولا يعدو نشر الكتب المرتبطة بمجالات الفكر إلا تضحية في سبيل المساهمة في نشر الفكر. أما بالنسبة للمؤسسات الرسمية أو ذات النفع العام التي من اللازم أن تتضافر جهودها من أجل الرقي بهذه المجال، وهي وزارة الثقافة في المقام الأول، واتحاد كتاب المغرب في المقام الثاني، إضافة إلى بقية الجمعيات، فالملاحظ أنها وإن كانت تقدم دعما، فإنه غير كاف، من جهة نظرا لمحدوديته ومزاجيته، ومن جهة، لأن عدد الإصدارات أكبر من قدرات الهياكل الموكول إليها التقرير في شأن الدعم. وعلى سبيل المثال فإن الدعم الذي تقدمه الوزارة، والذي نعُدُّهُ مكسبا يجب أن يراجع، من حيث القيمة والنهج الديمقراطي، ليستجيب للوضعية الفعلية لحركة الإنتاج، لا يبدو أثره واضحا لأسباب متعددة، أولاً لأنه موسط بهيأة تحكيم تتشكل من نخبة لا يخلو تحكيمها، سواء أتعلق الأمر بالدعم أم بالنشر أم باقتناء نسخ أم بالجوائز أم بالسفريات التمثيلية، من أبعاد ذاتية وحسابات تجهض موضوعية الفعل، وتظلم كتابا وكتبا.. ثم مسألة أخرى هي أنه من المستحيل انطلاقا من الميزانية التي ترصد لوزارة الثقافة أن تدعم كل الإنتاجات، الشيء الذي يؤكد أن الوزارة الوصية غير قادرة على المساهمة الفعلية في التنشيط الثقافي، (واسمحوا لي ربما أنني انتقلت من المفهوم العام للثقافة إلى قضية جزئية تهم الكتاب والتأليف المرتبط بالدراسات الأدبية والإبداع خصوصا).أما بالنسبة لاتحاد كتاب المغرب، فلا يختلف تدبيره في شيء، لأن القيم السائدة عند النخب لا تتغير، بل إن أغلب عناصر تلك النخب تحضر في كل الهياكل.. ورغم جهوده المشكورة، فالذين يرشحون أعمالهم يشتكون، حتى إذا ما قبلت أعمالهم للنشر، من التأخير الممل لصدورها. لينتقل بعد ذلك إلى شركات التوزيع والتي هي معدودة في المغرب، ومكلفة جدا للناشر والكاتب والقارئ أيضا، معتبرا أن نسبة خمسين في المائة غير معقولة. ليخلص إلى أن هذه الإكراهات تجعل مجموعة من الكتاب يلجؤون إلى النشر على نفقتهم الخاصة، وهذه التجربة من أمر التجارب التي يمكن أن يمر منها أي كاتب. لأن هناك صعوبة في التوزيع… إضافة إلى أن المؤسسات الناشرة لا تفي بالتزاماتها ولا تقدم، بالضرورة، تعويضا في النهاية، بل يشتكي عديدون من أنها تمارس نوعا من الزيف في الحسابات… ولهذا – يضيف محفوظ – يلجأ معظم الكتاب إلى بعض الجمعيات الصغرى لتنظيم توقيعات، غالبا ما تكون محرجة للأصدقاء، فتفرز مبيعات بدون قراءة، وهذا مشكل إضافي؛ وإلى جانب هذا الحل هناك الحل الأكثر نجاعة بالنسبة لبعض الكتاب الذين استطاعوا أن يكرسوا اسماءهم، فصار لهم إشعاع عربي، يهجرون المطابع الوطنية، ويلتجئون إلى دور النشر العربية، وفي هذه الحالة هناك سلبيات تشكل ثمنا طبيعيا لذلك، ويتمثل في تعقد الوضع التواصلي بين الكاتب والقارئ – إن وجد- ويتمثل المشكل الأول في أن الكتب التي تنشر في الخارج لا توزع في المغرب، ولا تصل إلا عن طريق المعرض الدولي، الشيء الذي يجعل الانتشار عربيا يقابل بعدم المقروئية في الوطن، أما المشكل الثاني فيكمن في كون أغلب مبيعات العارضين توجه بالدرجة الأولى إلى المؤسسات. وبما أن المعارض لا تقام إلا في العواصم، فإن الانتشار هو انتشار إعلامي بالأساس.. لينتقل إلى العنصر الأخير في السلسلة: أي القارئ، حيث يرى أن هناك طبقات من القراء، أغلبهم يحرمون من حق الاختيار، لأن الكتب لا تصل إلى مواطن إقامتهم، ولذلك فإنهم، وإن وُجِدُوا، لا يمارسون حق الاختيار إلا في حدود ما يصلهم. فهناك القارئ العادي الاجتماعي وهو شبه منعدم، وهناك قارئ يقرأ تحت إرغامات معينة وهو الباحث الذي يقرأ بشكل نفعي، وهذا القارئ، بسبب أخطاء في التنشئة المدرسية والأسرية، يختزل، في أحسن الحالات، الاطلاع على المراجع في الاطلاع على قراءات لها انطلاقا من المواقع أو المجلات.. وذلك ما يفسر وجود عشرات الآلاف من الطلبة في تخصص الأدب والعلوم الإنسانية، مثلا، ومع ذلك تظل ألف نسخة من كتاب إبداعي أو فكري حاضرة لسنوات.. ، ثم القارئ المبدع الذي يقرأ لكي يتعرف وضعه وسط منافسيه، ولكي يطور إمكاناته الجمالية والمعرفية، أما القارئ العام فيكاد يكون منعدما، والأدلة معروفة. ولا أريد، يقول محفوظ، أن أذكرها، ويكفي أن نعود إلى تصريحات (أحمد بوزفور أحد أبرز كتاب القصة في المغرب) غداة رفضه لجائزة المغرب من بين تبريراته أن مجموعته لم تتجاوز سقف ثلاثمائة نسخة خلال سنة، وأعتقد بأن الحقيقة أن أي كتاب أدبي أو فكري لا يتجاوز خلال السنة مائة نسخة إلا نادرا، وإذا تحقق ذلك فعن طريق التوقيعات والحملات والعلاقات، ومن اللازم الاعتراف أن البنيات المتحكمة في الأجهزة الرسمية هي نفسها المتحكمة في الأجهزة الشعبية المشكلة من جمعيات ثقافية صغرى صارت، الآن، تعج بها المدن والقرى، فليس كل منتجي الأدب والفكر يدعون إلى حفلات التوقيع التي تقام بالعشرات لأفراد بعينهم.. وباختصار، يقول الأستاذ، إن القراءة ضعيفة جدا، والمشكل الحقيقي الذي يجب أن تعالجه الدولة هو سياسة ثقافية تنطلق من ترويض الناشئة على القراءة وعلى التفاعل مع النصوص الفنية على اختلاف أنواعها، و أن تخلق لديهم الحاجة إلى القراءة ليس بوصفها فروضا، أو مناسبة عابرة للتنافس من أجل جائزة، وإنما بوصفها ممارسة يومية تحقق المتعة والإفادة.. ثم عرج على الصحافة التي يرى أنها تفتقد إلى متخصصين في تقديم الكتب وفق معايير علمية، مثلما تفتقد إلى وجود زوايا خاصة وثابتة تستطيع مواكبة أغلب الإصدارات، بحيث تفرض على المتتبع، قبل القارئ العابر والعادي، أن يتابعها؛ مؤكدا أنها، بدورها انتقائية، لا تهتم بجميع المنشورات، وملاحظا أن التغطيات الصحفية غالبا ما لا تخلق ذلك الشوق للاضطلاع على المؤلفات، ولكنها، في أغلب الأحيان، تنحو منحى النيابة عن القارئ في امتلاك الموضوع. وهذا يشكل خطرا آخر يجعل الكثيرين يعرفون الكتب عن طريق المقالات الصحفية، (عدد كبير من الكتاب نعرفهم ونحترمهم ونقدرهم ونعرف تخصصاتهم ولم نقرأ لهم) وهذه مسألة واضحة..ثم ختم مقالته بالحديث العام عن وضع الإنتاج المعرفي بسبب تقصير المؤسسات الوطنية في استعابه ونشره وضمان قراءته، مدمجا هذه المرة المجلات التي تكاد في الوطن تعد على رؤوس الأصابع، والتي تعرف أغلبها ارتحالا في الصدور وفي اختيار المواضيع وانسجامها ضمن محاور، ولا توفر تعويضات حقيقية. موضحا أن الوضع العام يدفع الكتاب المغاربة إلى تصريف إنتاجهم وترويجه ونشره خارج المنابر الوطنية. مشيرا إلى أن هذا الصنيع يسقط الكتاب المغاربة – سواء أكانوا واعين أم غير واعين – في قيود المؤسسات الدولية والعربية، والتي تتحكم في توجيه الإنتاج بطرق مضبوطة، وتجعل الكاتب المغربي يخضع لإيديولوجيتها ولغاياتها، مذكرا بالمداخلة التي قدمها في الموضوع ضمن ندوة المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء حول الوضع الثقافي العربي من خلال المجلات العربية المدعومة وغير المدعومة والتي فسر من خلالها الأسباب الموضوعية لتوقف بعض المجلات الحاملة لمشروع ثقافي واضح، واستمرار المجلات المدعومة وإن كانت بدون مشاريع واضحة أو مقنعة. مؤكدا في الأخير أن حل المشكل العويص لأزمة النشر والقراءة بالمغرب يظل من اختصاصات الدولة التي عليها أن تعيد النظر في السياسية التعليمية والإعلامية والثقافية، وأن تراعي إلى جانب فهمها للثقافة بعدها واجهة براقة لتدعيم السياحة أو بوصفها موضوعا لما يمكن تسميته بالتوظيف الرمزي للسياسة المجسد في فخامة المهرجانات، البعد الثقافي الحقيقي المتمثل في الإنتاج الفكري والرمزي في مختلف تمظهراته، ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل على إعادة تربيتنا ثقافيا، ولن يتحقق ذلك طبعا إلا عن طريق إصلاح حقيقي للتعليم.. وخلق مجلس أعلى للثقافة.”