إن الإنسان لا يكتشف قيمة الشيء إلا عندما يفتقده، وهذا ما يسري أيضا على الوطن الذي لا تدرك قيمته إلا عندما تغادره إلى مكان آخر، فيكبر أكثر في عيونك ووجدانك، ويصبح ما كان يبدو لك من مساوىء محاسنَ، وينقلب نقدك إطراء، وهجاؤك ثناء. ولعل هذا هو حال العديد من مغاربة العالم الذين كلما توغلوا في الغربة والبعاد، ترسخ عشقهم للوطن، وتداعت بهم نسائم الحنين الى تلك المنازل التي شهدت ولادتهم، واحتضنتهم أطفالا وصبية، وهذا حب غريزي وأنطولوجي يتجذر في قرارة كل (مغترب) مغربي، تراه يشد الرحال الى أرض آبائه وأجداده كل صيف وعيد ومناسبة، ويحلم بأن يكون له بيت تحت شمس المغرب، ولا يقبل بأن يتنازل ولو عن ذرة من هويته وتقاليده وعاداته، رغم أنه يتموقع في قلب الحداثة والعلمانية والعولمة.
كل مغترب مغربي يشعر بالغيرة والغضب عندما يُساء إلى وطنه. أتذكر أنه قبل بضع سنوات بينما كنّا في المؤسسة التي أعمل فيها نُعدّ نشاطا ثقافيا حول الربيع العربي، في شكل ملف يتكون من نصوص وصور وأفلام لعرضها في شكل دروس تقدم للطلبة، ويُتوج هذا النشاط بعرض مسرحي من أداء فنانين بلجيكيين وعرب محترفين، وكنت عضوا في لجنة مراجعة النصوص والصور، فاكتشفت عدم صحة بعض المعلومات والأرقام التي قمنا بتصحيحها، لكن الخلل الأكبر الذي لاحظته ولم أستمرئه! هو استعمال خريطة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا يظهر فيها المغرب مفصولا عن صحرائه، فلم يرقني هذا الطمس التاريخي والواقعي، ولم يكن أمامي الا أن أذود باستماتة عن وطني، وشرعت أشرح لزملائي الأساتذة أن “الصحراء الغربية” ليست دولة مستقلة، وغير موجودة إلا في خيال شرذمة من الانفصاليين، وأنها جزء لا يتجزا من المملكة المغربية، فاكتشفت للأسف الشديد أن أغلبهم يسمع هذه الحقيقة للوهلة الأولى، وأنهم يعتقدون دوما أن الصحراء الغربية دولة مستقلة في الواقع، وهكذا تم بعد أخذ ورد إقناع زملائي بهذه الحقيقة، فعدلوا عن فكرتهم، فاستبدلت الخريطة الأولى المبتورة على الفور بخريطة أخرى يظهر فيها وطني شامخا بصحرائه الممتدة على المحيط الأطلسي!
وبفضل هذا الموقف اكتشف مجموعة من زملائي البلجيكيين لأول مرة حقيقة أن “الصحراء الغربية” المتوهمة مغربيةٌ؛ تاريخيا وجغرافيا ووجوديا، وسوف ينقلون هذه الحقيقة لا محالة الى عشرات التلاميذ والطلبة، ليس فقط الذين تابعوا تلك الدروس حول الربيع العربي، بل إلى جميع الطلبة سواء الذين كانوا يُدرسونهم أثناء ذلك الموسم الدراسي أو الذين سوف يدرسونهم في المستقبل.