أن تأخد فرضية “حالة الطبيعة ” مساحة كبيرة من نقاش فلاسفة الأنوار ، لم يكن أمرا عبثيا ولا غريبا، من طرفهم هم الذين ساهموا في إثارة قضايا سياسية ، حاولوا من خلالها إعادة تنظيم الحياة السياسية داخل أوطانهم، التي رغم تباين نظمها السياسية ،ومشاكلها …إلا أنهم حملوا تصورات بديلة تهم المجتمع والانسان ، وتقضي بأن لهذا الأخير حقوقا طبيعية ، على الدولة أن تحفظها له تحت راية القوانين الوضعية.
كان ثمة ضرورة للكشف على أن الواقع المزري الذي يعيشه الأفراد ، في ظل مجتمعاتهم، يجب تجاوزه عن طريق منحهم الحق في تأسيس نظم سياسية مبنية على التعاقد الاجتماعي ، الذي وحده سيكفل لهم/ن وجودا كريما، لكن الأحداث التاريخية التي عاشتها البشرية،( حروب، أزمات اقتصادية ، سياسية ، استعمار ، ظهور أنظمة اقتصادية متعارضة ، ومتنافسة عرفت حربا باردة ، وتجسدت بعيدا عن دولها، في حروب ساخنة أججتها ودعمتها في الخفاء ، وهي تجدد أقنعتها باستمرار . ونيتها غير المعلنة في السيطرة على العالم، وعلى خيرات الدول التي حولها إلى دول ضعيفة ، متخلفة .
حسابات وأطماع سياسية حولت العالم إلى ساحات قتال وأدخلت الإنسان في لجة العنف والمٱسي ، فسلبته حياته ، كرامته ، وإنسانيته. وحولته إلى ذات تعيش القهر .
ها قد أصبح القهر طبيعته الثانية ، و أصبح محايثا له ، قهر طال كل مكونات وجوده ، ( الاقتصادية ، الاجتماعية ، الفكرية ، النفسية ..)، حتى لكاد القهر أن يتحول إلى ماهية له .
فما القهر ؟
يعرف ابن الاثير ، ( معجم لسان العرب ،لابن منظور ) : القاهر هو الغالب جميع الخلق . وقهر يقهرقهرا : تعني غلبه ويقال: أخدتهم قهرا ، ايمن غير رضاهم . وأقهر الرجل : صار أصحابه مقهورين.
والقهر من خلال هذا التحديد اللغوي ، يحيلنا على عدم رضى الفرد وهو يقهر ، أي وهو في حالة اغتراب قد يكون من طبيعة اقتصادية ، دينية سياسية…تلقي به في أحضان الإكراه ، وتسلب منه حرياته جمعاء.
كيف تحول الانسان من ذات حرة إلى مجرد كائن مقهور ؟
هل القهر سيكون مصيره الدائم ، أم أن نزوعه إلى الحرية سوف يكون مخلصا له من هذا القهر ؟
ونحن نتحدث عن القهر ، إلى أي حد يصح الحديث عن قهر الانسان ، على أساس أن قهر الرجل مشابه لقهر المرأة ؟
ألا يمكن أن نكون هنا مجانبين للصواب ، ونحن نسوي بين القهرين ، في الوقت الذي تختلف وضعية الرجل عن المرأة في أغلب المجتمعات البشرية ؟
في حديث الأستاذ الباحث مصطفى حجازي عن قهر الانسان ، نجده يعتبر أن التخلف هو سبب هذا القهر، منبها إلى أن الأدبيات اهتمت بالتخلف الاقتصادي والسياسي ، لكن ثمة إهمال للذهنية المتخلفة ، وهذا ما استدعى تفكيره إلى تسليط الضوء على هذه البؤرة .
كما أعاب على الباحثين الذين البسوا الانسان العربي المقهور ، نظريات قدت سلفا على الانسان الغربي ، الصناعي ، وليست ملائمة لنظيره العربي.
الإنسان الغربي هو وليد نقلة حضارية كبيرة ، لم يعش مثلها الانسان العربي ، الذي تحكمه الثلاثية التالية :
ـ العصبيات
ـ الفقه الاصولي
ـ الاستبداد
نعم ، المجتمع العربي عرف استيرادا للحداثة ، لكن البنى النفسية لم تتغير ، لم تأخد حظها ، فكل المشاريع فوقية، لم تنبع من القواعد المنتجة . كما أن القوى السياسية هي الأخرى فوقية .
هذه الثلاثية المتحكمة في العلاقات المتعددة، وبشكل خفي بين أفراد المجتمع الواحد ، حولتهم/ن إلى إنسان قطيعي … وهكذا لن نكون أمام فرد يحمل شعور الانتماء للوطن، بل سنجد لديه شعورا أكبر بالانتماء لعصبية ما ، يسندها الفقيه ، ويحصنها المستبد .
إذا أخدنا بهذا التصور ، يمكن أن نخرج بالخلاصة التالية ، أن الانسان المقهور ضحية هذه الثلاثية و عصارتها. قد لا نكذب هذه الأطروحة ، لكن ، لا بد أن نشير إلى أن ثمة إغفال لمسألة أساسية ، ألا وهي الفروقات الموجودة بين الرجل والمرأة، في هذه المجتمعات المتخلفة ، و أقصد مثلا، المجتمع العربي الاسلامي ، الذي نجد له خصوصية تطبعه ، وهو كونه مجتمعا تسوده ثقافة تستقي أهم مكوناتها من الفكر الديني، وتستمد أغلب القوانين المنظمة للعلاقات بين للأفراد ، من الشريعة.
وكما أكد على ذلك علماء النفس الاجتماعي ، ثمة ثلاثة مظاهر نفسية للثقافة :
ـ نسق القيم
ـ الادراك
ـ المعايير والتوقعات
“لتؤكد (نظرية المجال)، عند (كورت ليقين) ،أن الانسان يتحرك في مجال بيئته النفسية ، التي يرى من خلالها إشباعا لدوافعه ، ويشترك مع غيره علاقات ، وبحكم نشأتهم في ( ثقافة واحدة ), وهذه الثقافة تمنحه ( المنظار الثقافي )، الذي يحدد بدوره الخبرات والسلوك ، ويرى الفرد بواسطته العالم كله.
هذا المنظار الثقافي ، في مجتمعات لم تعش ثورات ذهنية ،فكرية حقيقية ، حدد للمرأة أدورا و قيدها من خلال تصورات ، لا ترى فيها سوى كائنا ضعيفا ، ناقصا عورة ، يحتاج باستمرار “للحماية”، التي هي في عمقها وصاية مستمرة ، يمارسها الأقربون والأبعدون . أي أن ثمة نسق قيم يتوارث ، جيلا بعد جيل ، ويتشربه الأفراد ، ليتحول إلى دوافع في تكوينهم النفسي يساهم في تشكيل سلوكهم .
هذا النسق القيمي المتداول ، إلى جانب تواطؤ القانون المستند على ماهو فقهي -شرعي. وأيضا غياب تمكين حقيقي للنساء ( تمكين اقتصادي – اجتماعي) ، كانوا جميعهم عوامل مباشرة ، إلى جانب أخرى غير مباشرة ، وراء قهرهن المضاعف ، لتكون المرأة تعيش قهرين :
_ قهر تشارك فيه الرجل ، بوصفهما معا يعانيان من تسلط الثلاثية المذكورة سلفا .
_ وقهر خاص ، تعيشه المرأة ، له تجلياته النفسية ، و الرمزية و الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية …إلخ.، تلخص في إقصاء وتهميش ،وعنف …
وضعية تزداد بروزا ، كلما كان الانفتاح على ثقافات أخرى حققت تقدما كبيرا ، وأنصفت الانسان عموما ، والنساء على الخصوص ، حيث تكون هناك فجوة بين الثقافتين ، الحضارتين ، وهذا ما أطلق عليه العالم ( اوغبرن), التلكأ الحضاري . حيث تعجز المجتمعات المتخلفة مسايرة تلك المتقدمة، وهذا يكون وراء مشاكل وأزمات نفسية وغيرها .
كيف الخروج إذن من هذا المأزق الثقافي المؤدي للقهر المزدوج ؟
هل سيكون ذلك بالمساهمة في إنتاج إنسان جديد ، بعيد عن قيم مهترئة في أغلبها ، ويكون ذلك عن طريق التربية والتعليم ؟
أم سيكون عن طريق تحديث المجتمع بشكل حقيقي ، بالقضاء على الموروث التقليدي ؟
هل سيكون بتبني رجل السياسة بمشروع مجتمعي متقدم ، بحيث لن يقتصر ( التحديث )، على ماهو مادي ملموس ،بل لا بد من إعادة النظر في البنى الخفية المتحكمة في هذه العلاقات ، قد لا تكون مكونات الثلاثية كلها مستهدفة ، ولا متشابهة من مجتمع عربي اسلامي لٱخر، لكنها لن تخرج عنها.مع الوعي الحقيقي بأن لا تنمية حقيقية بدون تفكيك هذه البنى الخفية القاهرة.