للحفاظ على منصبه، اضطر العربي إلى مرافقة شركة السكك الحديدية الفرنسية لجر، إلى جانب العشرات الآخرين من العمال، خطوط السكك الحديدية في كل الاتجاهات وفي الغالب تحت رحمة طقس مشبع بالمطر، البرد والثلج خصوصا لما تقرر ربط جنوب فرنسا بشمالها. في المرات النادرة التي كان يزور فيها عائلته، كانت الزيارة لا تتعدى اليومين. التحق بمؤسسة السكك الحديدية وهو دون الثلاثين من عمره وبعد أن قضى قرابة 15 سنة في الشغل، بدأ يشعر بألم في الظهر والمفاصل الأمامية ولما كان يرفع أسباك الحديد يشعر أن ظهره سيتنفلق إلى قسمين. ولم يقم بعيادة الطبيب إلا بعدما نصحه رئيس الورشة بذلك. « إن لم تزر الطبيب، ستلحق بك وعكة شلل دائم » حذره الرئيس. بعد الفحوصات المدعومة بالصور للظهر والمفاصل، أخبره الطبيب بأن أعراض الروماتيزم واضحة وعليه أن يتوقف عن العمل وإلا ستكون المضاعفات جد خطيرة على صحته البدنية. أول شيء خطر بباله بعد هذا التشخيص هو أن مشروع شراء بيت بالخمسات ذهب مع الريح. أوقفه الطبيب عن العمل لمدة ثلاثة أشهر كانت بمثابة سجن زمني بالنسبة له. تعاطى لرهان التييرسي، الأوروميليون، لعل الحظ يسعفه ويحقق أحلامه. وفي كل مرة كان يدخل كسير المعنويات ليجد زوجته، وهي ربة بيت، أكثر تذمرا منه. مع الزمن بدأت علامات الوهن تتضح عليه : سحنة شاحبة، عينان مجوفتان، مشية ثقيلة ودائما نفس الألم الحاد في الظهر والمفاصل. وفي أحد الأيام التي تهاطلت فيه الأمطار بغزارة، لم يفق كالعادة. أعدت زوجته وجبة الفطور وذهبت للنداء عليه لكن ما أن اقتربت منه حتى عرفت أن صاحب الأمانة تقدم منه لسحب أمانته. هكذا دخلت في مشوار معقد لإيجاد حل إما لنقله إلى المغرب ودفنه بالخميسات وإما إيجاد المبلغ الكافي لدفنه بأحد المربعات الإسلامية المخصصة للموتى من المسلمين. تبرع أصدقاؤه من العاملين في قطاع السكك الحديدية بمراسم الدفن بمقبرة تياي بعد أن حجزوا المكان بالمربع وأمنوا المصاريف .
أمثال العربي من الأجانب الذين جاءوا إلى فرنسا بحثا عن الرزق وترميم كرامتهم يعدون بالآلاف. منهم من ينتهي به المشوار إلى مقابر الآباء والأجداد ومنهم من يرقد وحيدا وسط قبور مجهولة تعلوها في الغالب علامات صليب من الاسمنت أو الحديد . إنها أشد أقاصي العزلة. إذ يبقى الميت في هذه الفضاءات نكرة ولا أحد يفكر في زيارته. كما يبقى الدخول إلى مقابر النصارى من موانع اللاوعي. أنشأ أول مربع إسلامي بقرار من المجلس البلدي لمدينة باريس في 17 يونيو من عام 1853 وتم بالفعل تدشين المربع في فاتح يناير من عام 1857 بمقبرة بير لاشيز. بعد 1918، خصص للمدنيين التقسيم 30 بالمقبرة الباريسية لبانتان. منذ 1925 للعمدة إمكانية تجميع في نفس المقبرة المتعددة الديانات للموتى الذين ينتمون لنفس الديانة. بفرنسا الميتروبول توجد مقبرتان يرقد بها موتى المسلمين: المقبرة الإسلامية لمدينة بوبيني وهي مقبرة خاصة والمقبرة الإسلامية لمدينة ستراسبورغ . غير أن مقبرة تياي تبقى أهمها والتي تم تدشينها عام 1957 بطلب من مسجد باريس. مع انتشار جائحة الكوفيد بدءا من مارس 2020 وتكاثر الموتى من الجالية الإسلامية وجدت السلطات الفرنسية نفسها أمام معضلة أماكن دفن المسلمين. من بين 40000 مقبرة، 600 منها فقط تحتضن مربعات لدفن المسلمين.فيما يتوفى سنويا 12000 مسلم.
فرنسا التي تدافع عن سياسة الإدماج تعطي هنا البرهان على سياسة الإقصاء مع تحقير للجالية المسلمة، الشيء الذي يدفع بالعديد من العائلات إلى التفكير في نقل موتاهم، وبأي ثمن، إلى بلدهم الأصل. اليوم تصل نسبة نقل الأموات إلى البلد الأصل 80 في المائة. وقد طالب نائب سابق عن منطقة السافوا من مجلس الدولة إعادة النظر في قضية المربعات الإسلامية. وتبعا لهذه المطالبة توجهت المحكمة الإدارية إلى نفس المجلس طالبة النظر في قضية المربعات. واعتبر النائب السابق أن هذه المربعات تعكس نظرة دينية تمييزية وعنصرية وأنها تمس بالمبادئ الأساسية للحياد العلماني والمساواة أمام القانون الذي تجاهر به الجمهورية. علاوة على مسألة نقصان بل انعدام المقابر الإسلام تواجه الجالية الإسلامية الأحياء منهم والأموات أفة تدنيس المقابر والاعتداء على حرمتها التي يرتكبها المتطرفون من النازيين الجدد ومن أنصار مارين لوبين.