(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الآية.
يعتبرالغباء انحدارا في الفهم، وضعفا في تلقي إشارات العلم الخارجي والداخلي والعمل على فك رموز مواضيع الفهم. وحسب القرآن الكريم يلامس الغباء الإنسان والجن، فكثير من الإنس لا يعقلون وكثير من الجن لا يفهمون، ولقد دفعني هذا الأمر للتفكير في فرضية وجود علاقة أو صلة أو قرابة في طبيعة هذين المخلوقين، خصوصا وأن الرواية الإسلامية والمسيحية واليهودية تسلم بقصة الخلق بشكل يكاد يكون متطابقا وما لعبه الشيطان من دور في نزول آدم عليه السلام، فالملائكة سجدت، وإبليس من الجن رفض.
وعليه، فالغباء الإيماني أمر قديم قدم هذين المخلوقين، والاعتقاد بأن الإنسانية المعاصرة فيه غباء أكثر من الماضي لا يمكن التسليم به أبدا، فليس هناك أغبى من مخلوقات رأت المعجزات، وعاصرت الخلق، ورأت الأنبياء، واستمعت للرسالات وهي تتنزل ولم تؤمن، الغباء الإيماني ربما ذاهب في التراجع مثل الغباء العلمي، فالإيمان يتقدم بتقدم العلم والعكس صحيح، ويكفي أن ننظر إلى الوراء في تاريخ الإنسانية لنعرف منسوب الغباء والهمجية والظلم في ما نقله التاريخ إلينا بغض النظر عما طمسه الزمان. الإنسان في الماضي كان بالتأكيد أبلد من الإنسان المعاصر، وهذا لا ينفي وجود استثناءات مبهرة كانت هي الطريق الرباني لاستمرار التطور والانعتاق من سيطرة البلادة على الإنسانية، حتى أن من مأثورنا أن نسمع أنه يجب أن ننتظر مئة عام ليبعث الله لنا من يجدد ديننا، وعلى المستوى الماكرو ننتظر قرونا لمعايشة قفزات في الرياضيات والبيولوجيا والفزياء…للتطور والتغير. لقد أكد داروين على أننا نشارك أو نتشارك مع أنواع أخرى بعض الأصول، وإن كان في نظريته شيء من الصواب فربما تصلح أن نقول عن أنفسنا بمسحة إيمانية أننا نشارك الجن في بعض خصائصها ذات الصلة بماهيتها وطرق تفكيرها. ربما لم يفكر فرويد في الجن لأن متفلت ولا يستطيع العلم ولا التحليل النفسي الإمساك به، لكن ندرجه نحن من باب توسيع نطاق التفكير في الغباء الإيماني. هذا الاخير الذي يعني عندنا انتفاء الشعور والإحساس بالإيمانيات والعجز عن فك رموز الإشارات العلوية واستيعابها، وكأن على حاسة الإدارك عند بعض الإنس والجن غبارا يغطيها ويحول بينها وبين الفهم، ولا غرابة أن تكون كلمة الغباء في اللغة العربية تعني الغبار الذي يكون فوق الأشياء ويواريها. وكما أن الذي لا يفهم في الرياضيات يزعج الرياضيين، والذي لا يفهم في الفلسفة يزعج بضجيجه الفلاسفة…..فالعلماء الربانيون بل وكل المؤمنين يجدون إزعاجا من الأغبياء إيمانيا. إن الإنسان لا يمكن أن يكون فقط كائنا منطقيا وعلميا واجتماعيا ونفسيا وسياسيا واقتصاديا ولا يكون كائنا دينيا، بل الآكد ان الذي ينفي الصفة الإيمانية لوحدها عن الإنسان فيه بلادة وغباء إيماني. ولو نظرتم إلى قصص القرآن والعهد القديم والجديد بل وتاريخ البشرية لهالكم عدد الاغبياء إيمانيا، بل ولو انطلقتم تلاحظون وتراقبون عدد الأغبياء في مختلف الميادين لعلمتم أن الغباء لا يتسلط علينا فقط في المجردات، بل في كل لحظة تحدثنا فيها بما لا نعلم ولا نتقن، فتجد الغبي في الطب، والغبي في السياسة، والغبي في التجارة….ولأن أمر الإيمان ميتافيزيقي ومصدره علوي، فإن أي حشر لذات الإنسان فيه باعتبارها ذاتا عالمة لا يؤدي إلا إلى الكشف عن غبائها الإيماني. ولا تتعجبوا إن تأكد لكم مع مرور الزمن أن كثيرا ممن تعتقدون بذكائهم ونباهتهم سرعان ما يظهر غباؤهم في أول امتحان فيما لا يتقنون، بمعنى آخر، إن الغباء صفة تلازمنا عندما نتطاول على ما يتجاوزنا. ومن فوائد الأغبياء تعميق البحث في فهم الغباء من جهة، والتصدي له من جهة ثانية، وتعميق العلوم البيداغوجية لتسهيل إكساب المعرفة لمن يعانون من صعوبات التعلم في مختلف التخصصات بما فيها الإيمانية.
يكاد يكون الغباء خاصية اجتماعية ملامسة لكل المجتمعات البشرية، وحبذا لو تكرم أهل السوسيولوجيا للبحث في سوسيولوجيا الغباء وأهل السكولوجيا في سيكولوجيا الغباء….إنني أجد في بعض الأحيان أن الإنسان يتفوق على نفسه في غبائه، بمعنى أن نفسه لم تكن تتوقع من نفسها أن تأتي من الأفعال والأقوال ما يصدر عنها في لحظة غبائها، حتى أنه عندما نخلد إلى النوم يهاجمنا ذكاؤنا الإيماني ليقول لنا: إنني لا أفهمك، ماذا قلت؟ كيف وصلت إلى هذا الرأي؟ هل تفكر بأداة أخرى غير التي نشترك فيها؟ الذكاء مسكين لا يعلم أن النسق أكبر من عناصره. زد على هذا أنني أعتقد أن احتمال أن تكون غبيا إيمانيا لا علاقة له بمستواك الدراسي ولا الاقتصادي ولا نسبك ولا حسبك، بل له وصل مباشر بقدرتك على زيادة تراكم الغبار فوق الأدلة المتاحة أمامك والتي لا تدركها بل لا تريد أن تدركها، لأنك تملك إرادة تحريك الغباء لا تفعيل الذكاء. ومن غرائب اللغة أن يكون الذكاء في اللغة العربية هو لهيب النار، إنه يحمل النور المضيء الذي يستطيع إذابة الغبار، أي الغباء الراكد فوق مثيرات العالم الخارجي والتي تدل إلى الإيمان. الغباء ليست له ثقافة ولا جنسية ولا حضارة بعينها، الغباء معطى موجود بالبداهة، فإما أن ترفعه أو يزداد سمكا. لا تتعجبوا إن وجدتم أن الغباء يسكن بين الفقراء والأغنياء، والطلبة والأساتذة والسياسيين والتجار…..ما من مجال إلا ويعاني من أغبيائه، وهناك دراسات علمية دلت هذا الأمر ليس المجال هنا للحديث عنها.
وفي الإيمانيات يأتي الأنبياء على مر التاريخ بالمعجزات والأدلة العقلية والمنطقية والكسمولوجية واللغوية والتاريخية الموثقة بالدليل بل التي عايشوها ورأوها ورغم كل ذلك فالأغبياء إيمانا لا يؤمنون، الإيمان ذكاء ميتافزيفي خاص بأهله، يشتركون مع غيرهم في الذكاء المنطقي والعاطفي و…ويتميزون بالذكاء الإيماني. ولا يفوتني أن أدعي أن الإيمان نفسه إن بقي متوازنا دل على ذكاء ، وإن انزاح تحول هو الآخر إلى همجية باسم الإيمان، كما تتحول العقلانية بربرية باسم العقل من خلال تبرير كل أشكال الاستغلال والظلم. فنكون آنذاك أمام بربرية مبنية على غباء إيماني وهمجية مؤسسة على غباء عقلاني.
إن الشي الذي يؤكده تاريخ الإنسانية هو أن الإنسانية حافظت بشكل استثنائي على تكرار نسبة الغباء في جميع محطات تاريخها حتى أن أتعس لحظات التدمير هي تلك التي يصل فيها الأغبياء إلى السلطة ويقررون في الحرب والسلم، وكما تعلمون أن معاشرة غبي وتحمله يكون شيئا مؤلما للنفس فما بالك إن أصبح هو من يقود ويسوس وعليك أن تطيعه، فالشخص الغبي يؤذيك ويلحق الضرر بك وهو في أعلى درجات الانشراح والنشوة بل والاعتقاد في الذكاء وخدمة البشرية، وهنا فقط وفقط وفقط بإعمال العقل نزيح الغباء من كل جوانب حياتنا بما فيها الإيمان.
ولو بسطت لكم الآيات التي تحدث فيها الله عن الغباء من خلال رسالاته لاستتجتم كثيرا من خصائصهم التي لا أملك التفصيل فيها الآن، وتكفي الآيات التالية كإشارة لمن أراد أن يتعمق في الغباء الإيماني وأنواعه وخصائصه.
ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) الآية.
ـ (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) الآية.
ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) الآية.
ـ (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ) الآية.
يسر الله أمركم