على مدى يومين، انعقد “منتدى الرباط العالمي لحقوق الإنسان”، من قبل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بتعاون مع المركز الدولي للنهوض بحقوق الإنسان-اليونسكو. وهو اجتماع تمهيدي للمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان، الذي سينظم يوم 23 مارس المقبل بالأرجنتين. الحدث بالغ الأهمية في “البحث” العالمي عن منطلقات ورؤى جديدة في تقويم ثقافة وسياسات حقوق الإنسان عالميا… هو محاولة اقتراح الإجابات على ما تطرحه التطورات السياسية، الاجتماعية والثقافية التي يعيشها العالم، من أسئلة مقلقة على ممارسة حقوق الإنسان… أسئلة المنطلقات، المنزلقات أو الانحرافات أو المغالاة أو التعسف في التنزيل، وسوء التغذية أو التخمة في استعمال ثقافة حقوق الإنسان أو التعاطي بها ما بين مكونات الشعب الواحد، أو في العلاقات الدولية وفي ظواهر وقضايا العالم… مداولات منتدى الرباط ستصب في مؤتمر بوينوسيريس، لتغذية الوعي بأهمية تجديد تصورات وتقويم ممارسات متصلة بمبادئ حقوق الإنسان…
لأنه، في الرباط حقوق الإنسان قضية جدية، في ممارسات الدولة والمجتمع معا وفي تفاعلاتهما… وهما معا حريصان على ترسيخها وتعميقها وتطويرها رغما عن ما يواجهها من نتوءات، مطبات وكوابح في “الانتقالات”، السياسية والاجتماعية، التي يعبرها المغرب… وعقد المنتدى العالمي لحقوق الإنسان لوحده عنوان لامع على ثقة “المجتمع الحقوقي” العالمي في ملموسية الانجازات الحقوقية المغربية…
غير أن دولا وجهات غربية تزعجها تلك الانجازات… لأنها من روافع تقدم مغربي حضاري، لا تستسيغه… بل تقاومه… المنتدى العالمي إالتئم في الرباط، بعد يوم واحد من صدور المجلة الفرنسية “ماريان”، وبها ملف “ضخم” محشو بما يركب صورة مغرب قاتم، لا لون فيه من ألوان حقوق الإنسان… دولته مارقة، “تهوى” التجسس على مواطنيها وعلى الصحافة المغربية والأجنبية وعلى رؤساء الدول، تخنق أنفاس الصحافة، تضغط على فرنسا وعلى، أوروبا عامة، بمخدر الكيف وبالمهاجرين الأفارقة… هي دولة من صنف “جمهوريات الموز” في أمريكا الجنوبية، سنوات سبعينيات القرن الماضي، وهي مزيدة ومنقحة” عنها، بالمستجدات التقنية، الرقمية والعملية في القمع وفي التحكم، في المغاربة وفي… فرنسا… طبعا. كان المشاركون في المنتدى العالمي في مغرب “آخر”… مغرب الواقع… استضافهم في العاصمة، وقد انهمكوا فيها بالبحث في آفاق حقوق الإنسان عالميا، ورافقهم في ذلك البحث مغاربة، “واقعيون” من الدولة ومن المجتمع، بمقترحات وتوجيهات سياسية وفكرية جدية، كما فعل السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية، والسيدة أمينة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومجموعة واسعة من المناضلات والمناضلين، المنشغلة بالشأن الحقوقي المغربي والعالمي… مجموعة ليس عليها آثار ولا غبار ولا كآبة قمع ولا تجسس ولا ترهيب…
ملف مجلة “ماريان”، صدر بعيد أيام من صدور ملف “لومند” حول الجزائر… إنها “الهواية” الفرنسية في موازنة علاقاتها بين المغرب والجزائر… والملف، لم يكن عملا صحفيا خالصا… له لبوس صحفية، ولكنه قصف للمغرب بالذخيرة “الناعمة”… تلك التي توجه ضد التحصينات المعنوية للشعوب… لكي ينفذ من انهيارها ومن ثغراتها ما يدمر الارتباط العاطفي بالوطن وبمؤسساته، للنخب أولا ومنها إلى عموم المواطنين… “ماريان” هي واحدة من أدوات تحامل عريض على المغرب… ملفها “الصحفي” هو مجرد تحامل يتوسل بمقالات ذات شكل صحفي… هو ملف يستند فقط على الوشوشات، الادعاءات، المزاعم، الاختلاقات، التكنهات واللي المتعسف للحقائق وللوقائع وللأحداث… ليس في الملف حقيقة واحدة مؤكدة أو واضحة المصدر… من نوع مزاعم تجسس الأجهزة الاستخباراتية المغربية على صحفيين وعلى سياسيين، داخل المغرب وخارجه، وعلى الرئيس ماكرون نفسه، بواسطة برنامج “بيغسيس” الإسرائيلي… لم يقدم أي زاعم بذلك، ولا دليلا واحدا ملموسا… يعتبر إدعاءه دليل وبرهان قطعي… وستتبنى المجلة الفرنسية، وغيرها من أدوات التحامل ضد المغرب، تلك الادعاءات كونها حقيقة لا شك فيها… المحاكم التي بثثت في قضايا متصلة بذلك الادعاء، لم تتوصل بأي دليل لاتهام المغرب… المخابرات الاسبانية صرحت بأن المغرب بريئ من التجسس على هاتف رئيس الحكومة الاسبانية… ومع ذلك ستقول مجلة “ماريان”، كما قال من قبلها البرلمان الأوروبي، وكما يردد متحاملون آخرون من أوساط أوروبية، وأساسا فرنسية، وحتى من كمشة مرتزقة “مغاربة” يتسولون تأجير مخابرات ما غربية بخدماتهم… كلهم يرددون، بلا خجل، بأن الدولة المغربية تستعمل نظام التجسس “بيغاسيس” ضد معارضيها وضد أصدقائها وضد الإنس والجن…
لا بل إن “أمنستي” ستذهب إلى أبعد مدى في التحامل ضد المغرب… فهي ستصدر بيانا، “تأمر” فيه المغرب بالكف عن “مضايقة” الصحفي الاسباني السيد سامبريرو… مضايقته بمقاضاته في المحاكم الاسبانية… بما يعني –حسب أمنستي- أن ما زعمه السيد سامبريرو من التصنت المغربي على هاتفه، أمر ثابت وغير قابل للنفي أو الطعن فيه، ولا ينبغي إزعاج المدعي بمقاضاته ومطالبته بالأدلة… لأنه على حق مطلقا، والمغرب مذنب ومتهم، بل وشرير. مطلقا، ولا حق له في الدفاع عن نفسه وأمام المحاكم الاسبانية… إنها المنظمة الحقوقية، ذات الصيت العالمي، التي تقول ذلك… وقولها لا يرد… ودون اعتبار لمبادئ وثقافة حقوق الإنسان ولقرينة البراءة ولحق الرد ولحق الدفاع عن النفس… المغرب لدى أمنيستي، لدى “ماريان” ولدى جوقة المتحاملين، هنا وهناك، وخاصة لدى أوساط فرنسية، التي تلعب دور “المايسترو” لذلك التحامل، المغرب مدان بحكم غير قابل للطعن فيه… حكم هو مجرد هذيان محموم… بتوجيه من “الجهة” التي يزعجها المغرب، وأصابتها حركيته بالدوار، وتقدمه يوجعها بالحمى… ومسبقاتها تنهار…
في المغرب ملك. نعم ملك، وطني وديمقراطي وحداثي، وشعبه بكل قواه متلاحم معه… وذو أنفة وكرامة، وبحس استقلالي حاد في علاقاته الدولية… إنه لأمر مزعج لمن يستفيد في علاقاته الدولية من حالة التبعية والخضوع وتزعجه وتؤديه الندية في الصداقة… في المغرب و حدة وطنية منيعة، يغذيها التدافع الديمقراطي، إذ قواه السياسية بقدر حرصها على صون الحقوق الوطنية ترعى الحقوق الديمقراطية… فلا يندغم حق في حق، ولا تنفصم عرى الالتحام الوطني… أمام محاولات، الانفصال، التطرف والفتنة… في المغرب تطلع نهضوي، يقوده الملك محمد السادس، بتصور استراتيجي، متدرج، متنامي ومتواصل. تصور له منجزات، أساسها الإرادة الوطنية، التي غالبت ضعف الإمدادات المالية، في المجالات الاجتماعية، الاقتصادية، الصناعية، الفلاحية، في المنشآت العامة، في الانتصارات الديبلوماسية في التمدد الإفريقي للمغرب، بطاقة المفيد لشركائه والغيور على المصلحة الإفريقية، وأيضا، بتدبير توازن دقيق وصعب بين قوى دولية متصارعة في ظرفية سياسية عالمية مضطربة بل ومشتعلة، لفائدة مصالحه الوطنية ولفائدة السلم والتضامن بين الدول والشعوب…
تلك عناوين “المزعجات” في المنجز المغربي، والتي تقضم الكثير من مغانم أوساط، لم تخرج بعد من مسبقات واعتياديات علاقتها التقليدية، المتقادمة، مع المغرب… ولهذا، فهذا التحامل، بأدواته المسعورة اليوم، هو تصور متكامل وبعيد المدى… وسينتقل إلى مستويات أعلى في عدوانيته… وينوع أشكالها من الصحافة إلى الاقتصاد إلى السياسة… وفي السياسة من الضغط بتسويد الوضع الداخلي إلى التهديد بتعكير صفاء التقدم في مسار المنازعة حول الصحراء المغربية… وفي ظنهم، هي موطن وجع المغرب… إنها “لوموند” نفسها، التي تشتم في خطها التحريري “عطور” الخارجية الفرنسية، تنشر “منبرا” لشخصيات أكاديمية، فرنسية واسبانية، حول قضية الصحراء المغربية. لست معنيا بنوايا تلك الشخصيات ولا أخدش فيها، وأفترض فيها حسنها… إنما “رأيها” قابل للاستعمال، من جهة ما، منزعجة من المغرب، ليكون تلويحا بمشاغبة ضد المغرب بخصوص الصحراء المغربية… “الرأي” يساوي بين المغرب والجزائر في الموضوع… وهذا غير صحيح وغير واقعي… المغرب يدافع عن وحدته وقيادة الجزائر ترعى الانفصال ضده… الموقعان مختلفان… الرأي يتجاهل مقترح الحكم الذاتي المغربي، وهو تقدم هام في مسلسل الحل السلمي، والواقعي، المتوافق عليه والدائم… والذي فتح هذا المسار السلمي بعد استحالة إجراء الاستفتاء، كما صرح بذلك جيمس بيكر، في حينه… والأخطر في ذلك “الرأي” هو اقتراح ندوة دولية في باريس، نعم في باريس، بعد تجاوز رعاية الأمم المتحدة للحل والجهود التي يبذلها مبعوثها السيد دي ميستورا… إذا كان هذا “الرأي” مجرد “اجتهاد” يصادف هذا التشنج الملحوظ في التعامل الفرنسي مع المغرب، فهو اجتهاد باطل ومجرد لغو، وعلى هامش المجرى الواقعي للحل السلمي، والذي تقدمت في رعايته الأمم المتحدة ويساعدها المغرب بمقترحه السلمي وبتعاونه معها، ومعها فقط…
المغرب يقظ لما يجري ضده وحوله، اليوم، كما كان بالأمس وسيبقى كذلك غدا… الحملة ضده ستتسع وتتنوع، كما كشفته دراسات وأيضا تسريبات لتوقعات استخبارات أوروبية… لأن تفوقه يزعج، مكانته تزعج، انفتاحه يزعج، وحرصه على كرامته يزعج… وحتى موقعه في حركية حقوق الإنسان العالمية يزعج، وصدقيته داخلها وقناعته بمبادئها لتدبير مساراته التنموية تزعج… إذ المطلوب أن يبقى المغرب، ذلك البلد المتخلف الذي يستجدي الوصاية والحماية… ذلك ما لم يقبله وقاومه في كل الظروف الصعبة وبالامكانيات المحدودة في الماضي… وبالأحرى اليوم، وإرادته أقوى ووحدته أمتن وقدراته أفعل وطموحاته أوسع…