صرح السيد مصطفى بنحمزة بأن النقاش العمومي الهام القائم حاليا حول مدونة الأسرة هو “نقاش ولا نقاش”، وأن المطالبين بمراجعة نص المدونة مراجعة جذرية يسعون إلى “فرض الرأي بأساليب ملتوية”، فلنضع هذه التصريحات تحت المجهر تنويرا للرأي العام.
أولا: هل اطلع السيد بنحمزة عن المذكرات والبيانات والأدبيات المكتوبة بدقة والمصاغة بمسؤولية من طرف ذوي الاختصاص حول مطالب النساء في مراجعة مدونة الأسرة ؟ الجواب أحد أمرين: إما أنه قد اطلع عليها وتجاهلها ليقول كلاما غير مسؤول، وهذا ليس من المروءة في شيء، وإما أنه لم يطلع عليها وسمح لنفسه بمحاكمة النقاش العمومي على غير علم بتطوره ومضامينه. وفي الحالتين معا أخطأ الفقيه القصد والتصرف.
في تصريحات الرجل ما ينمّ عن رغبة في التخلص من الموضوع أكثر من الخوض فيه بنزاهة وعقلانية، كما في كلامه من التناقضات ما يُظهر ضعفه الكبير وعدم قدرته على خوض نقاش تجاوز السقف الذي يريده أن يقف عنده.
ولعله لم ينتبه إلى أن الكثير من كلامه لا يعني سوى شيء واحد وهو التذمر من النقاش والاستياء منه، قال مصرحا: “منذ مدة أرفض الحديث في هذا الموضوع، لأن الحديث إذا صار مكرورا أصبح مملا”، وهو تصريح هام جدا، لأن الفقيه إذا كان يشعر بالملل، فإن الحركة النسائية لا تمل أبدا من فضح مظاهر الظلم الذي تتعرض له النساء يوميا، يشعر الفقيه بالملل لأنه يكرر نفس الكلام الذي ورثه عن 12 قرنا من الفقه الجامد، أما الديمقراطيون فيقدمون في ترافعهم من الأرقام والمعطيات والوقائع المستجدة والحجج والبراهين ما ينبغي أن يخجل له الفقهاء والدعاة لو كان في قلوبهم قدر من الرحمة، وفي عقولهم نسبة من الحكمة.
صرح السيد بنحمزة متحدثا عن المطالبين بمراجعة جذرية لمدونة الأسرة قائلا: “الذين يدعون إلى تعديل المدوّنة لا يشرحون لنا بالضبط ماذا يريدون وعلى أي أساس يطلبون ذلك”. وهذا تصريح أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لشخص يعيش خارج البلد، إذ لو كان معنا لكان قد اطلع على مذكرات التنظيمات الحقوقية والمدنية والأحزاب السياسية إضافة إلى ما أصدره المجلس الاقتصادي الاجتماعي في تقاريره وكذا المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إضافة إلى النموذج التنموي الجديد، دون أن ننسى ما كتبه باحثون وباحثات أفراد في كتبهم ومقالاتهم، وما تم تنظيمه من عشرات الندوات والمناظرات والبرامج الإعلامية التي خرجت بتوصيات واضحة لا لبس فيها، توضح المطالب ومنطق الإصلاح والمرجعيات المعتمدة في ذلك، فهل يُعقل أن كل هذه العقول النيرة لبلادنا تجتمع ولا تبلور أفكارا تقنع فضيلة الشيخ ؟ الحقيقة أن الرجل قد تعب ولم يعد يستطيع مواكبة النقاش، أما المطالبون بالحق فلا يتعبون من ذلك أبدا لأنهم يؤمنون بأنه ما ضاع حق من ورائه طالب، وأما الظالمون فيشعرون بالتعب والإنهاك والملل، لأنهم لا طاقة لهم بمواجهة ما صنعوه من مظالم بسوء تدبيرهم وقسوة قلوبهم واحتقارهم للنساء.
صرح السيد بنحمزة بأن “الإسلام هو الذي يتبنّى التجديد”، وأن “المساواة مبدأ إسلامي”، وأنّ “علماء الشريعة الإسلامية يعتبرون أن المساواة من مقاصد الشريعة”. وما نود أن يعرفه الرجل ومن على دربه من دعاة التقليد هو أن مثل هذه العبارات الرنانة لم تعد تقنع أحدا، لأنها لا تتحول أبدا إلى سلوك وممارسة، فإذا كان الإسلام دين تجديد فإننا لا نراه في مواقفهم، بل لا نرى سوى التقليد والاجترار والدفاع عن نصوص ضدّ مصلحة الإنسان والسعي إلى عدم رفع الظلم عن النساء، وإذا كانت المساواة مبدأ إسلاميا فإننا لا نرى من دعاته ومشايخه إلى كل دفاع عن التمييز والتفاوت وإهانة كرامة المرأة دون أي شعور بتأنيب الضمير، وحتى يخرج معسكر التقليد من التناقضات القاتلة التي يتخبطون فيها عليهم أن يخرجوا من قلعة الفقه القديم وأن يُشغلوا أدمغتهم ويراعوا واقع الناس وضرورات الوقت، وأن يغيروا قواعد التفكير الفقهي التراثي إذا كانت جامدة وغير مطابقة لواقع اليوم، وأن يعلموا بأن المرأة التي يتحدثون عنها من خلال الآيات والأحاديث لم تعد موجودة في عصرنا حتى يطبقوا عليها نصوص الدين كما فسرها وفهمها القدماء، وأن المرأة التي نطالب بحقوقها فاعلة ومؤثرة ومعيلة للأسرة ومنفقة من مالها ولم تعد هناك من النساء ـ إلا نادرا ـ من ترضى بالقعود في البيت، بمن فيهن الأميات وغير المتعلمات، لأنهن اكتشفن بأن الاستقلال الاقتصادي ينجيهن من الظلم والاحتقار، وبأن الفقه القديم إنما بُني على قاعدتين: أن الرجل ينفق ويحمي المرأة، وأن المرأة ضعيفة هشة وناقصة عقل. وهاتان القاعدتان لم تعودا تنطبقان مطلقا على نساء اليوم، فحتى الشهادة التي كانت تعتبر نصف شهادة الرجل في الأموال صارت اليوم مساوية لها، ولم نسمع من السيد بنحمزة وأصحابه دفاعا عن “الأية القرآنية الواضحة والقطعية الدلالة”.
إننا لا نريد لفقهائنا أن يشعروا بالملل، لذلك ندعوهم إلى تحريك بركة الفقه القديم الآسنة، لكي يشعروا بمتعة الحياة والنقاش والتبادل، وبأنهم مفيدون لوطنهم، وأنهم عادلون ونزهاء.
وإمعانا في النكتة والكلام الذي يُلقى على عواهنه، قال السيد بنحمزة :”إننا نحقق المساواة بالطريقة الذكية التي لا نحرج فيها فرداً من أفراد مؤسسة الأسرة”. وكأنه لا يعلم بأن المساواة إما أن تكون أو لا تكون، وأنها حق إنساني مبدئي لا يمكن أن يُحرج أحدا، وأن الذي يشعر بالحرج من المساواة إنما هو شخص يستفيد من التمييز والتفاوت، ويقضي مصالحه على حساب غيره.
والحقيقة أن الذي يخشى الفقهاء من إحراجه هو العقلية الذكورية المتخلفة، يريدون تحقيق المساواة بالجرعة الصغيرة رفقا بعقلية الرجال، عوض تأطير الرجال وتوعيتهم وتحسيسهم بواجباتهم وحقوقهم وتغيير منطق تفكيرهم وسلوكهم حتى يتمكنوا من مواكبة التطورات القانونية والحقوقية ببلادنا.
ومن اللجاجة ما ذهب إليه السيد بنحمزة الذي يضرب يمينا وشمالا في خبط عشواء قوله إن”مشكلة المدونة في رأي منتقديها هي أنها تتضمّن (للذّكر مثل حظ الأنثيين)، بمعنى أن القصف الذي يوجّه إلى القرآن يوجّه عن طريق المدوّنة، لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا بأن القرآن ظالم”، وهو كلام يظهر بوضوح بأن الرجل لا يفهم ما يُقال ولا يتابع النقاش الحالي، فالمطالبون بتعديل المدونة ليس غرضهم اتهام الأديان، أو التحامل على نصوص أصلية، لأن النصوص ليست سوى كلمات على الورق لا تقبل الشخصنة، ولا أثر لها على واقع الناس إلا عندما يقوم الوسطاء بقراءتها وتفسيرها ومحاولة نقلها إلى المؤسسات، وهذا هو عمل الفقهاء والمشرعين القدامى، الذين تركوا لنا النصوص مشروحة حسب واقعهم القديم وظروف حياتهم التي لا صلة لها بما نعيشه اليوم، ألم يقل الفقهاء بالإجماع بأن الآية “قرن في بيوتكن” تعني أن على جميع نساء المسلمين أن تلزمن بيوتهن ولا تخرجن إلا بشروط ضيقة حددوها بأنفسهم، مع العلم أن الآية المذكورة وردت في نساء النبي وليس في جميع النساء، فمن الظالم هنا هل القرآن أو الفقهاء ؟ ثم لماذا سكت السيد بنحمزة وأتباعه عن إلغاء العمل بالكثير من النصوص الشرعية “الواضحة الدلالة” و”القطعية” والتي هي “معلومة من الدين بالضرورة”، والتي عوضناها بقوانين وضعية في العديد من قطاعات الحياة العامة، أليس لأنهم يعتبرون المرأة بمثابة الحائط القصير الذي يمكن التطاول عليه ؟
وحتى يصل التهديد والوعيد مداه كالعادة اعتبر السيد بنحمزة أن تغيير النصوص ذات الصلة بالشريعة لصالح المرأة بمثابة “تفكيك نهائي للدين”، فحتى لا نقوم بـ”تفكيك الدين” على المرأة أن تخضع وتطيع وتتخلى عن حقوقها، هل هذه هي الحكمة من الأديان ؟ ثم ما هو الدين ؟ هل هو الأركان الخمسة التي لا أحد يناقشها أم هو شؤون الدولة والسياسة والمجتمع التي هي موضوع حوار دائم وتوافق وأخذ وردّ ؟ لماذا ظلت المسيحية الديانة الأكثر انتشارا في العالم بعد أن فُصلت عن الدولة وشؤون الحكم وصارت اختيارا عقائديا شخصيا ؟ ولماذا أصبح الإسلام يثير المخاوف في القارات الخمس ويُحارَب في كل مكان وتعتمده فرق وجماعات في ترويع المواطنين وتخريب البلدان ؟ هذه هي الأسئلة التي على السيد بنحمزة ومن معه أن يجيبوا عنها.
ومن أغرب ما صرح به السيد بنحمزة من تناقضات فاضحة قوله: “المبدأ الأساسي في الإسلام بالنسبة للمرأة هو سلامتها وحمايتها، وليس مبدأ المساواة”. متناسيا بأنه سبق أن صرح بأن الإسلام دين مساواة، ومتجاهلا بأن المرأة اليوم لا تبحث في الزواج عن الحماية والسلامة بل عن تحمل المسؤولية بجانب الرجل باعتبارها فاعلة ومنتجة سواء داخل البيت أو خارجه، كما أن الإحصائيات والأرقام تظهر بأن أخطر شيء على سلامة المرأة هو الزواج الذي يريده الفقهاء، حيث نسبته 55 في المائة بالمغرب، فأية حماية وأية سلامة يتحدث عنها الرجل في ظل القوانين التي يدافع عنها ؟
أما اغتصاب القاصرات باسم الزواج فقد دافع عنه السيد بنحمزة بدون خجل، معتبرا أن السلطة التقديرية للقاضي ينبغي أن تبقى، دون أن يعلم بأنه بكلامه يحرم آلاف الفتيات الصغيرات من التمدرس، ويشجع على تزويجهن عوض توفير شروط تمدرسهن، كما يقدمهن قربانا لتبرير أوضاع الفقر، ويشجع على العنف ضدهن، لأن الطفلات لم تستكملن النضج النفسي والعقلي الذي يؤهلهن للزواج، مما يؤدي إلى تعرضهن للعنف في أسر تطالبهن بمسؤوليات لا يمكن لهن تحملها.
ويعلم الجميع ما وراء هذا الرأي من شطط في فهم الدين ومن فضائح نشرناها في مقالنا “جذور البيدوفيليا في الفقه الإسلامي”.
سوف نتابع النقاش مع فقهائنا ودعاتنا بلا كلل ولا ملل، لأننا نعمل بشعور وطني من أجل نهضة بلدنا، ولا نهضة له إذا كان نصف المجتمع معطوبا مشلولا ومقهورا، مؤكدين مرة أخرى للدولة المغربية على ضرورة تكوين فقهاء الدين في العلوم الإنسانية، حتى تكون لهم القدرة على فهم الواقع وليس النصوص الدينية فقط، لأن فهم النصوص بمنطق الفقه التراثي مع الإعراض عن الواقع الحيّ وتجاهله يؤدي إلى ارتكاب الأخطاء التي تجني على حقوق الناس وكرامتهم.