إن الممارسة التحادثية الدارجة في المغرب تُبْرِزُ صيغة سياقية للمحكية السردية. يتعلق الأمر بالدرجة الأولى بالنُّكْتَةِ بما هي محكية عادية تُسائل بشكل نوعي الصيغ الإبدالية والتوليفية للنسيج السردي حسب عملية التقاط المعلومة وعرضها وتداولها. وهذه المحكيات التحادثية تترسخ غالبا في أمكنة تُتَّخَذُ كمُحَفِّز وشرط مسبق لجميع أنماط المعاملات التحادثية، وخاصة أماكن الاحتفالات العائلية والمقاهي والأماكن المشتركة في وسائل النقل العمومي وقاعات انتظار الخدمات وقاعات الاستقبال وفي الحمامات الشعبية وغيرها. والملاحظة التي يجب التنويه بها هي أننا غالبا ما نميل إلى نسيان الأساسي في محادثاتنا الموسعة في المغرب.
في البدء نطرح الفرضيّة التي مفادها أن العلاقة بالمحكية تكون عبر تطويع تجزيئيّ: النكتة التي تكون موضوعا لذلك يتم السمو بها عن طريق الأوجه الجديدة للكلام الذي يتّخذ شكل استرداد حواري بطابع مونولوجي. فالكلام تشكيل لمعيش يهمّ الدائرة العامّة والدائرة الخاصة على السواء. ويعيد رسم التقرير المفصّل لآراء المتحادثين/الساردين، والمتلقين للسرد، واعترافاتهم، وأحكامهم الحميمية، لكن على شكل أبجدية مشفرة. والخطاطة السردية التي تمّت ملاءمتها تحسم في الشكل الإضماري ولو كان وصفيّا. علاوة على ذلك فالنُّكَتُ تشهر معيشًا سواء كان سياسيا أو اجتماعيا، ثقافيًّا أو أحيانا حتى نُكَتًا مفتونة بالموت والكوفيد 19 والمستقبل الغامض للإنسانية.
إن الاهتمام بهذا النوع من السرد، الذي يتخذ شكل نكتة، يبرز منظومة القيم التي يندرج داخلها إنسان اليوم ويكون ناشرا لها. وبذلك تقدِّم شخوص النكت طيفا اجتماعيا شاسعا يكون منتقدا بوضوح خصوصا تجاه علاقة المواطن بالدولة لغاية الطعن في مصداقية النخب. وعلاوة على النكتة تأتي الإشاعة، بما هي ظاهرة للنقل الواسع للمعلومة وتدّعي الحقيقة، لتغذّي هذه المحكيات السردية غالبا على شكل أخبار زائفة أو عمليات تعتيم حيث السرد يكون أهم من الكشف عن حقائق. والإشاعة تتحرك كخرافة حضرية، لأنها تتواجد في صلب الجدالات، خاصة الإعلامية. فنلاحظ أن الإشاعة تنتشر كالنار في الهشيم والناتج السردي المقدّم يختفي خلف “الحكاية الجيدة جدًّا”. والسارد في هذه الوضعية سيكون دائما في حاجة إلى أن يستنجد بالواقع. لكن ما هو الواقع بالضبط، إن لم يكن ما تقدّمه الفكرة بما هو كذلك؟ الواقع ليس مفروضا كما نظن، فمظاهره هشة وجوهره مضمر أو مجهول، وتعقيده مجبول من اللايقين وسرده يختار الإضمار. وحينئذ تبدو الإشاعة كما لو أنها تريحنا في يقينياتنا، فالحاجة إلى الإيمان والاطمئنان هي ما يهمنا.
وعلى صعيد آخر تندرج ملامح الساردين الممكنين أوّلا في ذاكرة وصورة منظمة حول عناصر ارتكاز يجب أن تظهر في كل محادثة. ويقوم السارد/المتلقي باستعمال عُدَّةٍ جسدية هي بالأساس فطرية، ولكنها نوعية على مستوى الثقافة السائدة. والمحكية التي تتفرّد في النضج الجسدي تُظْهِرُ أنطولوجيا مزدوجة سواء في شكلها الصوتي والبصري أو في مضمونها، الذي يحيل على جميع أنماط التلقي وحتى على كيانات متخَيَّلة. والمواجهة المباشرة للمضمون السردي تُقيم علاقة خيالية مع الحدث المحكي ومع الخيال الدينامي للسارد. فكيف ينعكس إذن كلٌّ من نشاط السارد ووجهة نظره واهتمامه وتقييمه النفسي في المحكية؟ من منظور كلّي فإن المسرود له شكلٌ (جيشتالت)، أي أنه يمر من بداية إلى نهاية موسومة، وله جوانب إضمارية ويتضمن نوعا من الذروة. وفي منظور المكونات الدلالية يمكن أن نتساءل: ما هي المقاطع التي تم التغاضي عنها أو تلك التي تم تثمينها؟ عادة ما تشتغل المحكية التحادثية على شكل ثنائيات (نقص/تعويض النقص): إما يتمركز السارد على ذاته، وإما يجب أن يُغَرِّمَ سامعه ليكون له الحق في تسلسل في الدينامية التحادثية. وهي أيضا مناسبة بالنسبة للسارد ليندرج في محيط تمظهر الكائن.
وهذه طريقة للكشف عن الذات وموقعها ضمن المعيش. وبذلك يصبح السارد موضوعا للحقيقة، بل يكون مقياسا لها. والكشف يمتد بين جمالية سردية وحكاية. رغم ذلك، أليست معرفة الذات سوى هروب يؤدي إلى فقدان الذات؟ ألا تكون الذات، بعملية تغاض، مأخوذة بأسرار أَناها وقواها المتناقضة؟ فالجانب الغامض للأنا هو برهان إنسانيتنا. علاوة على ذلك فالأنا تتجاذبها دائما طموحاتها وإغراءاتها، إيمان داخلي ومجال خارجي. وبالتالي فالسارد يتيه بين المقاطع الإضمارية دون أن يتقدم ليستعمل بسهولة التعامل مع مواد أناه، وهو الذي تَبَنّى منظورًا يشوّه أناه عوض أن يعيد تشكيل نفسه على أساس مُعَدِّلات سردية. وهذا التشويه يسائل التحريف الذي أصبح تهديدًا: إما أن تكون الأنا موضع تهديد، وإما أنّ الآخر، الذي لا أعرفه، هو الذي يجعل منها قوة يمكن أن أخشى عنفها. وجرّاء ذلك تصبح الحقيقة والسلامة محرّفتين. وبالتالي تتأثر المحادثة السردية بالخوف من التهديد. وهذا الخوف انفعال ينتج عن تآلف الخوف من الآخر والخوف من عدم إتقان السرد والرغبة في إثارة إعجاب الآخر، ويصاحب هذا كله أحيانًا ضعف في الثقة بالنفس. ومن أجل ذلك يتورّط السارد في محكية تسمح له بالتهرّب. تجدر الإشارة هنا إلى أن السارد يحبط فخ النموذج الأبيسي الموروث حيث الأب وحده يحتكر سلطة السرد، وهو نموذج تَصَوْرَنَ على شكل عمل منتج يعكس على نحو حتمي توزيع الأدوار السردية بين الأفراد في المجتمع. ومن المحتمل أن يؤدي الجانب التراكمي للعائلة الحالية إلى إلزامية تنظيم عسكري حيث تستأثر الرموز الأبوية بالمهام، وخاصة الاستئثار بالكلام كهيمنة. ولئن كانت المدرسة تعمل على تقديس المكتوب، فإن هذه المحادثات السردية تضع المكتوب، كمسلّمة، موضع تساؤل وتعيد النظر بعمق في الشفاهي كتعبير انفعالي لموقفِ مستعمل السرد. ووَقْعُ التواصل الإلكتروني على طرق السرد يصَعِّب من تأويل بعض تلوينات المعنى الناتجة تارة عن شفاهية مقلَّدة وتارة عن قلب لشفرة المكتوب، وتارة أخرى عن توليفات اللغة.
في المجمل يظهر أن الممارسة التحادثية بالمغرب، بتفضيلها الجمل المعترضة، تتضمن شكلا يصعب تحديده من التفاعلية، هجينًا تقريبًا بين الأشكال المتنوعة والمزدوجة المعنى.