أثارت كلمة الملك محمد السادس، التي تليت خلال افتتاح البرلمان الدولي بمراكش هذا الأسبوع تحت عنوان “حوار الأديان: لنتعاون من أجل مستقبل مشترك”، (أثارت) ردود تفكير إيجابية، عكستها عملية نشر إعلامية واسعة، حملت على وجه الخصوص تأطير عبارة وردت في سياق الموضوع، تقول، أنه “يتم توهيم الرأي العام، هنا وهناك، بأن الأمر يتعلق ب“صراع جهالات لا صدام حضارات ..”، منظرا على طريقة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، صاحب المصطلح الشائع في علم النفس والمتاخم لمفهومي “الضمير الجمعي” أو “الوعي الجماعي”.
ليست المرة الأولى التي يختار فيها الملك محمد السادس الخوض في مفاهيم ذات قيم إنسانية وجمالية وفلسفية أيضا، كاشتغاله المستمر في العديد من التقاطعات المعرفية العميقة، في خطبه وتوجيهاته، وخلفياته التفكيرية والسياسية والثقافية، والتي تمتاح من قاموس دلالي واسع، ورؤية واعية بالراهن والعالم، كاستشعاره في كلمة البرلمان الدولي، مفاهيم مغايرة في السلوك السياسي ك”الضمير المشترك (conscience collective) ، و التعايش السلمي (Coexistence pacifique)، كوعاء ينتهج سياسة تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الإيديولوجية والتفاهم بين الشعوب في القضايا الدولية.
وعلى خلاف نظرية المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون، الذي يؤسس تأويلاته لمنظومة إعادة تشكيل النظام العالمي، وفقا لخوارزمية “صدام الحضارات أو صراع الحضارات”، كما اشتهر بها، والقائمة أساسا على فكرة “صراعات ما بعد الحرب الباردة” سابقا، والمؤسسة على مواجهة محتدمة بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، وانتقالاتها في المركز إلى الاختلافات الثقافية كمحرك رئيسي واستراتيجي للنزاعات بين البشر. فإن ملك المغرب أسس فكرته المبدئية حول فهم المتغيرات واستحضارها في أهم السلاسل الاستعمارية الأكثر تأثيرا واستلابا، خصوصا فيما يتعلق بوسائل الإعلام الجديدة، التي “تطبع فضاءات النقاش العمومي، (بما في ذلك عدد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ومنابر عمومية)، مع وصم الآخر بسبب الدين أو اللون أو الأصل، مع كل المخاطر التي يحملها ذلك على وعي وثقافة الناس، وعلى تأليب الرأي العام. وتحتفظ الذاكرة العالمية بأعمال الإبادة الجماعية، والحروب المدمرة التي كانت بداياتها خطابات وإيديولوجيات التعصب للعقيدة الدينية، أو للطائفة أو للعرق”، (أسسها) على الفهوم الخاطئة لتلك الصراعات الواهية والواهمة، مع ربطها ـ وبشكل أفقي ـ بما وصفه ب “حوادث العنف والاضطهاد والقتل بسبب العقيدة الدينية أو المذهبية، أو الانتماء الحضاري”، وأن “يصبح العداء للأديان مادة مفضلة من طرف البعض في المزايدات الانتخابية”.
ومن أجل تأطير واستدرار هذا التوجه الأخلاقي، ركن الملك محمد السادس إلى إعادة تفكيك واقع الجهالات ذاك، بمحايثة أوبئة العصر الجديدة، كازدهار أيديولوجيات وخطابات “اللامساواة الطبيعية”، والتراجعات الخطيرة التي يشهدها الوعي البشري، وهو ما يحيل بالتداعي إلى أننا نعيش حالة تشكل وضعيات تدافع بين أزمات أمنية واقتصادية وسياسية وصحية وبيئية.
وهو بهذا التأسيس يضع في علاقة متشابكة ومتناقدة، محلحلا نموذج العقد الاجتماعي العالمي، وانكماشه الراهن في الفلسفة الأخلاقية والسياسية، والحاجة الملحة إلى إعادة تدويره وتقديمه، وفقا للمستجدات، باستحضار أهمية “التفكير الجماعي” مع استقراء ” خطورة الظرفية التي يمر بها عالمنا اليوم وهو يواجه دعوات التطرف والأنانية والكراهية والانغلاق، والأعمال الإرهابية التي تستغل السياقات الخاصة لاستنبات المشاريع التخريبية باسم الدين، والدين منها بريء.”
وعلى الرغم من أن كلمة الملك تثير تخوفات مشروعة، حصرها في العديد من المؤشرات “جد سلبية” الكابحة لتطور وإحفاز العلاقات بين الأديان والحضارات، فإن تمظهرات هذه المواقد في العلاقات الدولية، بدت وكأنها تأخذ أبعادا ثقافية وحضارية متشعبة، مربوطة بما يسميه (Ian Rex Fry ) ب”وجود الحواجز التي تقيد محادثات الحوار الهجومي بين الأديان في تطوير التفاهم المشترك حول المواضيع التي تثير الانقسام”. كما أن رفض التعددية والاختلاف الثقافي يزيد من تغليق المآلات وتحويلها بالتدريج إلى قضايا مرتبطة بالتعصب والقهر والاعتداء والعنف. وهو ما يستدعي ، حسب قول الملك محمد السادس ” وضع نسق أخلاقي مشترك، موصيا بالقول، أنه ” إذا كان منطلق العيش المشترك هو أن يكون الدين حصنا ضد التطرف وليس مَطية له، فإن ترسيخ هذا المبدأ، إلى جانب احترام الأديان الأخرى، يحتاج إلى جهد بيداغوجي تربوي تضطلع به المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، والمؤسسات الدينية وفضاءات النقاش العمومي المسؤول”.