في بلادنا نسجن من يدَّعي النبوة وهو – بالطبع – ليس نبيًّا بل هو مدَّع لها ، كما نسجن من يطبِّب الناس وهو ليس بطبيبٍ ، فلماذا لا نبعد الشيوخ الذين يفتون ليلا ونهارًا وهم ليسوا أهلا للفتوى ، وأنا هنا أطالب بإبعادهم فقط عن طريق الفُتيا وليس بسجنهم كما يحدث مع بقية المدلِّسين والمزيفين والمدَّعين ، لأن الفقيه الذي لا علم له ، ويصر على الفتوى كمن ( يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنـزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القِبلة ) .
وهل يعرف الفقيه أنه زلَّ ؛ كي يرجع عن زلَّته ؟
عدد من العلماء يعرف أنه يدسُّ ويدلِّس ويكذب ، وعدد آخر لا يدرك ، لجهله بالمسائل التي فيها يفتي ، ولأن زلة العالم فتنة بين الناس ، فلابد من الرجوع في الأمر مباشرةً ، من دون تأجيلٍ أو تسويفٍ ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يصر على الباطل أو المكذوب أو المدسوس ، وعلماء السوء عندي ” كمثل صخرةٍ وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع “.
وابن قيم الجوزية يقول : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضًا ) .
الزلة التي أقصد هي مجانبة الصواب ، أو الانحراف عن المسار ، أو السقطة أوالخطيئة أو المعصية ، التي يقع فيها الإنسان بقصد أو من دون قصد ، عن علم ومعرفة أو نتيجة جهل وعدم إلمام بالأمر الذي فيه يفتي ، وتكون الزلة أفدح وأفضح عندما تصدر عن عالم أو فقيه أو متخصص في الدين أو شيخ من المفترض أنه يعلم ويعرف ، ومهمته في الحياة تعريف الناس بدينهم ، وتفقيههم ، وشرح وتفسير ما غمُض عليهم والتبس في أمر من أمور الدين .
وزلة الفقيه خطيئة لا يمكن غفرانها ، أو التهاون بشأنها ، أو إغماض العين معها ، إذ هي أضعاف ما يرتكبه أي إنسان عادي لا يشتغل بالدين ، أو لا يقدم نفسه باعتباره حارسا إلهيًّا على الأرض ، أو ممثلا رسميا للسماء ، أو نائبا عن الله .
وإذا ما زلت قدم العالم وتعثَّرت ، فلن يكون موضع تبجيل واحترام وتقدير من أحد ، لأنه القدوة والمرشد والدليل الذي يتبعه الناس خصوصا البسطاء منهم ، الذين يرونه ممثلا شرعيا للشريعة ، وعلى الناس أن تمتثل لأمره ، وتتخذه مثلا يُحتذى ، وأسوة حسنة ، وقدوة يُقتدى بها ، لأنهم سيصنعون مثل ما يصنع ، وينتهون عما ينتهي عنه .
والعالم إن زل عليه أن يتوارى ويختفي من المشهد تمامًا ، وألا يقلده الناس أمور دينهم الصحيح .
ولعل قول عمر بن الخطاب: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن , وأئمة مُضلُّون ) ، يعدُّ من أبرز الأقوال في المشكلة التي أطرحها للمساءلة والجدل ، إذ الزلل قديم ، ولذا نبَّه إليه النبي محمد والخلفاء والصحابة والتابعين وأقطاب التصوف ، و ” مَا عَقَلَ دِينَهُ مَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ لِسَانَهُ “.
ولا أحد يمكن له أن يغفل الحديث النبوي : ” إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٌ وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ” ، لكن أمة محمد الآن صارت ممتلئة بالعلماء الذين ضربهم الهوى والزلل.
وقصدي هنا ليس زَلَّةُ أو فَلْتَةُ أو زَلْقَةُ اللسان ، التي لم يَكُنْ يُقْصَدُ التَّلَفُّظَ بِهِا أو زَلَّةُ القَلَمٍ ، وإنما الزلة المتعمدة الصادرة عن شخص هو ابن للمعرفة أو ابن للجهل ، ولهذا قيل : احذروا زلة العالِم ، فإنه اذا زلَّ زلّ بِزلته عَالَم .
ولا ينبغي للمرء أن يتعامل مع العالِم على أنه ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، لأن العصمة لله وحده ، إذ هو لَيسَ بمعصومٍ ، ولا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم كما يشير ابن قيم الجوزية (691 – 751 هـجرية ، 1292 – 1350 ميلادية ) ، أما فقهاء ذلك الزمان الذين وضعوا أنفسهم في مراتب الرسل والأنبياء ، وهم دون المكانة العلمية ، فهم في المقدمة من أصحاب الزلل ، ومن المفترض أنهم من (أَهْلَ الذِّكْرِ ) ، وينبغي لنا أن نسألهم باعتبارهم يعرفون ويفقهون ، فعلى العالم كما يذكر ابن قيم الجوزية أن ” يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع “ وعلى الرغم من أن ( … كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) ، فإننا نادرًا ما نسمع عن عالم اعتذر عن زلاته ، أو اعترف بأخطائه ، بل إننا نرى فقط أن من وقع في أخطاء مماثلة ممن ليسوا من المشتغلين بالدين أو اجتهد في مسألة من المسائل قد سُجن ، وتلقى عقوبته .
ولابد من الحذر الشديد من زلة العالم ، ولا ينبغي تقليده ، وهو المُخطئ ؛ لأن « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » ، والنبي محمد يقول في الحديث : ( من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) .
وبعض من فقهاء هذا الزمان لا يخجلون من امتطاء الشريعة ؛ بحجة المواءمة مع متطلبات العصر ، أوتطويعها لمراضاة السلاطين ، بدلا من أن يُحكِّمُوا الشريعة في أمور العباد .
وليس عيبًا أن يرجع العالم عن فتوى أصدرها ، أو يعترف بخطأ ارتكبه ، أو يعود عن رأي منحرف ساقه ، أو أن يتشدَّد في أمر كان ينبغي له أن يكون مبسوط اليد واللسان ، وأن يأخذ موقف النبي محمد وأبي بكر في مسألة أسارى بدر ، وألا يأخذ موقف عمر بن الخطاب الذي عندما سأله النبي ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) ، فأجابه عمر : ( … و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ) .
وهو نفسه عمر الذي سيرسل بعد سنوات ، عندما صار خليفة كتابا إلى معاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ).
لكننا نعيش في زمان يزل فيه كثير من العلماء والفقهاء في إصدار الفتاوى أو إبداء الرأي ( أقول الفقهاء والعلماء مجازا ، لأنني أراهم فقط دارسين ومتخصصين وليسوا في مرتبة الأسلاف الذين عرفهم التراث الإسلامي ) ، ومع ذلك لم نجد أحدًا اعتذر أو تاب أو عاد إلى الحق ، أو اعترف بخطئه ، على الرغم من أن جريمته كبيرة ، إذ سيتبعه بشر كثيرون ، يرونه الإمام والفقيه الذي لا يزل ولا يخطئ ، وستصير فتاواه دستورًا يعيش الناس به ، وهذا نجده كثيرا ، خصوصًا فيما يتعلق بأمور النكاح والميراث ( الدلتا والصعيد مثالا ) . ف (ويل للأتباع من عثرات العالم) ، الذي يتتبع شواذ الحديث ، وإذا كان لكل عالم هفوة ، فهفوة العالم كبيرة ، ولا تُغتفر ، إلا إذا طلب هو المغفرة ، وأقر بخطئه .
ـ ahmad_shahawy@hotmail.com