عند النظر في كل ما يدور أمريكيا واسرائيليا، وإلى حد كبير عربيا، حيال الحرب الجارية على غزة الآن، يمكننا حصر ذلك في اتجاهين رئيسيين، الأول هو التغييب المطلق والتنكر الواضح للحقوق الوطنية الفلسطينية، ومحاولة التخلص من كل ما قد يكون أساسا للدلالة على تلك الحقوق، وهو المتمثل الآن في فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي وجود الشعب الفلسطيني بمجمله على تراب وطنه. في هذا المجال، هناك غياب كامل لأي حديث عن كل ما يمس الاحتلال، والعدوان الاسرائيلي المستمر منذ ثلاثة ارباع القرن.
والإتجاه الثاني، هو الحضور الثقيل والمستمر للحديث عن شكل النظام السياسي، و”القيادة” الفلسطينية، وصلاحياتها، وشرعيتها، ومدى تمثيلها، وضرورة تجديدها، و”تشبيبها”، وفسادها أو شفافيتها، ومدى استحقاقها للدعم أو عدم استحقاقها. الحديث عن النظام السياسي الفلسطيني والقيادة الفلسطينية، يعلو ويخفت في “تناغم” ملفت مع كل مرة يحاول الفلسطينيون لفت انتباه العالم إلى قضيتهم وإلى حقوقهم الوطنية، في مشهد بات واضحا في طرق إنتاجه وإخراجه، وقبل ذلك في أهدافه، التي تتلخص في أخذ الشعب الفلسطيني إلى فضاء آخر غير ذلك الذي يتوجب الذهاب اليه، وهو التحرر والتخلص من الاحتلال.
كل الحراك السياسي والاعلامي الاسرائيلي والأمريكي، وربما لا داعي لإضافة الأوروبي و”العربي” في كل مرة، يتلخص في بحث ما سيكون في اليوم التالي لوقف الحرب في غزة. يتم القفز عن اليوم الحالي الذي تُرتكب فيه المجازر، وتتم فيه الإبادة، ويموت فيهي من يسلم من القنابل الإسرائيلية من الجوع والبرد والمرض، للحديث عن مصير غزة بعد “حماس”، وهل ستبقى؟، وإن بقيت فمن يحكمها، وكيف يحكمها؟.
ابتدأ التاريخ عند اسرائيل وأمريكا في السابع من أكتوبر… لا حديث عن الاحتلال ولا عن الضفة الغربية والقدس واللاجئين، ولا عن أية حقوق وطنية للشعب الفلسطيني. وإذا كان لا بد من حديث عن بعض الحقوق للفلسطينيين فهي لا تتعدى كونها مساع”انسانية”، يجري الحديث عنها بتفصيل دقيق وممل، كم شاحنة مساعدات يجب ان تمر، وكم حبة دواء، وأي الأمراض التي يُسمح بإدخال أدويتها؟. وإن كان هناك من دعوات لوقف إطلاق النار، فهي لا تتعدى أن تكون لفترات قصيرة ولأغراض انسانية، ولا داعي لاستحضار أي “خيال” يفكر في ما هو أبعد من ذلك.
اسرائيل والقيادة الفلسطينية
ناضلت منظمة التحرير الفلسطينية بصلابة من أجل حقها في تمثيل الفلسطينيين، انطلاقا من تبنيها للأهداف الوطنية الفلسطينية، ومن ممارستها العملية للنضال من أجل تحقيق تلك الأهداف.
بدورها ربطت اسرائيل لفترة ليست قصيرة بين منظمة التحرير وبين الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني. من أجل ذلك حاربتها بكل الطرق؛ ضربتها عسكريا حيث كانت، خاصة في الاردن ولبنان. وسعت لتشجيع أو خلق بدائل سياسية تنافسها في تمثيل الفلسطينيين، سواء كان هؤلاء أنظمة عربية، أو “أدوات” فلسطينية، كتلك التي سُميت روابط القرى.
لكن ظرفا ما، كانت فيه منظمة التحرير أكثر ضعفا وأكثر “براغماتية”، وكانت فيه اسرائيل أكثر ذكاء وأقل “أصولية”، استطاعت فيه اسرائيل أن تقتنع أن التمثيل السياسي يمكنه أن لا يتطابق بالضرورة تماما مع تبني الحقوق الوطنية، وأن الربط الدائم والكلي بين منظمة التحرير والأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، قد لا يكون حكيما طيلة الوقت، وأن بالإمكان العمل على خلق فجوة بين الأمرين، ثم استغلال الكثير من الأدوات، واستخدام الكثير من الوسائل للذهاب نحو توسيع تلك الفجوة، وهذا ما “تتوج” باتفاقية اوسلو.
منذ ذلك الوقت الذي أُنشئت فيه السلطة الفلسطينية، نتج نظام سياسي فلسطيني “استوعبت” فيه السلطة منظمة التحرير، لضمان عدم العودة لجسر الهوة بين وجود المنظمة وهدفها المفترض (فالإحتياط واجب)،تراجع خطاب القضية والحقوق الوطنية ومناهضة الاحتلال، لصالح الحديث عن طبيعة النظام السياسي، وعن “الامتيازات” والمساعدات “الإنسانية” بدل الحقوق، وطغى اليومي على الاستراتيجي في حياة الفلسطينيين، وحل الحديث عن “الديمقراطية” والشفافية والعدالة الاجتماعية مكان العدالة التاريخية التي لا تتحقق إلا بهزيمة المشروع الصهيوني واستعادة الحقوق الفلسطينية.
الحديث عن القيادة الجديدة
من الغريب أنه حتى بعد السابع من أكتوبر، وفي خضم الحرب على غزة، يختفي الحديث عن القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية الفلسطينية والاحتلال، ويعلو الحديث الاسرائيلي والأمريكي والعربي وبعض الفلسطيني عن الحكم في غزة بعد الحرب، وفيما اذا الحكم سيشمل غزة والضفة؟، وعن ضرورة تجديد القيادة الفلسطينية، وهل من الضروري الإتيان برئيس جديد أم أن الرئيس الحالي سيبقى ولكن بصلاحيات مختلفة، كما يتم التطرق الى نوع الحكومة المطلوبة ورئيسها، وهل ستكون حكومة سياسية أم حكومة تكنوقراط، وإن كانت حكومة سياسية فهل ينبغي اشراك حماس بها؟. وتتردد أسماء بمواصفات مختلفة عن شخصية رئيس الحكومة القادم، ويتم الحديث عن الدولة أو الدول التي تقف خلفه، وهل سترضى فتح عنه أم لا؟. كل ذلك يجري ويملأ الساحة الإعلامية والسياسية، دون أن يبدو أي أفق لوقف إطلاق النار، ولا حتى لتدني منسوب المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين.
يجري ذلك ليس فقط في ظل الحرب المحتدمة على غزة، وتصاعد الصراع في الإقليم الذي يمكن أن ينزلق الى حرب اقليمية ليس من السهل تخيُّل مدى تأثيرها، إنما أيضا في ظل أجواء يتم فيها الضغط الاسرائيلي على السلطة الفلسطينية في موضوع الترتيبات المالية معها، والذي يشكل بدوره ضغطا كبيرا على شريحة واسعة من الفلسطينيين الذين يعملون في الجهاز البيروقراطي للسلطة، وفي ظل ضغط أمريكي جديد على منظمة التحرير، حيث صادق الكونجرس الأمريكي على حظر دخول أعضاء المنظمة إلى امريكا، رغم كل “الانضباط” الذي تمارسه المنظمة، تجاه كل ما قد يشكل “حساسية” لإسرائيل وامريكا.
ربما يأتي ذلك في سياق ما ذكرناه منذ البداية، من حرص اسرائيل والولايات المتحدة على إنهاء كل ما قد يثير في اذهان الفلسطينيين حقوقهم الوطنية، أو حتى يستحضر نوستالجيا القضية في المخيال الشعبي الفلسطيني، أو في حال جاز لنا اعتماد نظرية “المؤامرة”، فإن هذه القيود تُفرض على المنظمة الآن، في حال تم التراجع عنها، يقدم أمريكيا واسرائيليا على أنه فتح “مبين” يستحق أن تدق له الطبول ويُحتىف به في الساحات العامة.
حل الدولتين.. من جديد
من المهم أيضا الإنتباه إلى إعادة إحياء الحديث الأمريكي والغربي عن حل الدولتين، وكأنه اكتشاف يجري الحديث عنه لأول مرة، وليس حديثا ممجوجا يُستحضر منذ مؤتمر مدريد عام 1991، كلما أراد الامريكيون تقطيع الوقت في إدارتهم “للصراع” الفلسطيني الاسرائيلي، يضاف إلى ذلك أنه يشكل عامل تشجيع “للمصطفين” في صف التطبيع من العرب لكي “يشهروا” ذلك بعد “الإطمئنان” على أن القضية الفلسطينية تسير في طريق الحل. حديث الدولتين، يدغدغ الطرف الفلسطيني الذي يدرك تماما أنه ليس أكثر من وهم يستخدمه الأمريكان، لكنه بحاجة لذلك الوهم للإستخدام “الشخصي” في تقطيع الوقت أيضا في إنتظار “العدم”.
حديث القيادة.. سياق آخر
من المهم الإنتباه إلى أن الحديث الأمريكي والإسرائيلي و”العربي” المرتفع عن القيادة الفلسطينية، بأشكالها المختلفة وحالاتها المختلفة، إنما يُراد منه الذهاب بالفلسطينيين وبكل من يهمهم الأمر إلى مكان آخر غير الذي يُفترض أن يكونوا فيه، حيث القضية الوطنية الفلسطينية والحق الفلسطيني الذي عُمِّد بدماء الضحايا في غزة ومناصريها.
أمريكا وكذلك اسرائيل لا يهمهما بتاتا من يقود في فلسطين، سياسيا أو تكنوقراطيا، شابا أو كهلا، شفافا أو فاسدا، ديموقراطيا أو دكتاتورا، إلا من زاوية مَن يكون الأنسب لتمرير الأهداف الإسرائيلية والأمريكية على الفلسطينيين.
يدرك الفلسطينيون أن كل حديث حول فلسطين لا تكون الحقوق الوطنية التاريخية بوصلته وأساسه، من حقهم أن يعتبرونه “مشبوها”، بما في ذلك، وربما في مقدمة كل ذلك، الحديث عن “قيادة” فلسطينية جديدة، أو عن نظام سياسي مختلف.