معجزة الإسراء والمعراج لم تكن من ناحية مضامينها والدروس المستفادة منها خاصة بالرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي قام برحلته العظيمة ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، ثم صعوده إلى السماوات العلى في ليلة السادس والعشرين من مثل شهرنا رجب بعد مضي عشر سنوات أو ما يزيد عن البعثة المحمدية بحسب منطوق اختلاف الروايات ، وإنما كانت تمثل رحلة الإنسان الوجودية بصفة عامة ، ورحلة الإنسان المومن نحو ربه بصفة خاصة على اعتبار أنها حدثت لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في وقت لم يعد له فيه ملجأ ، أو سند سوى الله سبحانه وتعالى .
ومن هنا ينبغي على كل إنسان أن يتأمل أحداثها كاملة ، أو بعضا منها ليرى مدى التلاؤم الحاصل بين ما وقع للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وبين وقائع حياته الخاصة ، ويمكن أن نستخرج منها دروسا جديدة ، توافق زمننا ، ومسايرة لمطلق الحياة كما يعيشها الآدمي كما سنرى من الآتي :
1 – لا حبل ولا سند يدوم مثل دوام حبل الله وسنده : لَمَّا شعر رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام بانعدام النصير بعد موت عمه وزوجته أمنا خديجة رضي الله عنها وما تلا ذلك من تبعات مشاق الدعوة ، وخروجه للقاء الوفود القادمة إلى مكة في مواسمها المختلفة ، ثم ما وقع له من مآسي في مدينة الطائف حين ذهب للبحث عن النصير المرجو……
في هذا الوقت الحرج بشهادة هذه المناجاة المحمدية العميقة ( اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك ) بعد هذه المناجاة المعبرة أكرمه الله تعالى بمعجزة الإسراء والمعراج ليبين له قدرته المطلقة ، وليوقفه على حقيقتين متكاملتين :
الأولى أن حبل الله القوي هو الحبل الذي لا ينقطع أبدا ، قد يشعر الإنسان بالعزلة والغربة والضياع في أوقات الضغط والابتلاء ولكن إرادة الله وقدرته المطلقة حاضرة باستمرار وبمعيته ، فمن ضروب الإيمان المسبب للاطمئنان والسكون أمام هول الأقدار استشعار وجود الله وقربه ، والثقة في فرجه القريب .
الثانية أن ( مع العسر يسرا…..) تتحقق في الحياة كلما اشتد البلاء ، وتوالت الويلات ، وأنها طريق الرسل والأولياء والصالحين ، وطريق مُجَرب ومُوصِل إلى اليقين بوجود الخالق الرحيم بعباده .
2 – الحياة وازدواجية وقائعها ما بين الحلال والحرام : في واقعة عرض إناءين مملوءين باللبن والخمر على المصطفى عليه الصلاة والسلام إشارة قوية على أن الحياة تضم التناقض والمتناقض في كل شيء ، تضم الحق والباطل ، والخير والشر……وأن من يظن غير ذلك ، ويعتقد بوجود طرف دون طرف هو كمن قال الله تعالى فيهم ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ – الحج :11 ) .
يكفي أن نعلم من كلام جبريل عليه السلام وهو يخاطب نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لما اختار اللبن ( هُدِيت أو اخترتَ الفطرة ) أن الإنسان حر في أفعاله واختياراته ، وأنه معرض للاختبار والابتلاء طيلة حياته ، بالإضافة إلى أن معجزة الإسراء والمعراج تغرس هذا المبدأ في نفسية كل مومن ، وتحمله مسؤولية أفعاله ، ولا يعتد بادعاءاته التبريرية المختلفة كما فال الله تعالى : ( بَلِ اِ۬لِانسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٞ وَلَوَ اَلْق۪ىٰ مَعَاذِيرَهُۥۖ : القيامة 14 \ 15 ) .
3 – الصلاة تحقق معنى الإسراء والمعراج المستمر استمرار الحياة : الصلاة لأهميتها فرضت على المومنين أثناء المعراج إلى السماء ، وبلا واسطة ، وعندما نتأمل جيدا الحدث كما جرى سنقف على مجموعة من الاستنتاجات ، وهي :
ا – إن فضائل معجزة الإسراء والمعراج لم تقف عند حدود شخصية رسولنا الكريم وإنما هي متاحة لكل المومنين عندما يمارسون شعيرة الصلاة ، على الأقل خمس مرات في اليوم والليلة .
ب – فرض خمس صلوات يوميا فيه دليل على أهمية معجزة الإسراء والمعراج ، وعلى أهمية الصلاة القصوى ، وعند المقارنة بين شعائر الإسلام وأركانه سنلاحظ أن الصلاة ليست شعيرة سنوية كالصيام ، أو مطلوبة مرة واحدة في العمر إذا تحققت الاستطاعة كما الحج ، وليست تخضع لمعايير الزكاة التي لا تجب إلا على من توفرت فيه شروط خاصة وإنما هي رحلة يومية في ملكوت السماوات والأرض ، يلتقي العبد فيها بربه ويتحقق له معنى الإسراء والمعراج الخاص به والمستمر معه .
ج – لمعجزة الإسراء والمعراج حضور دائم في وجود الإنسان ، ويشمل حياته وموته وما بعد النشور ، وفيه معنى القرب من الرب الذي يطمح إليه كل آدمي ، يقول نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء ) .
غير أن مفهوم القرب يخضع لضوابط مستفادة مما تقتضيه المراحل الوجودية الذي يمر منها الإنسان ، وقد تكون لها علاقة بالنظرة العظمى ، أو تنتهي بها وهي الغاية الفضلى كما ورد في قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى ربها ناظرة – القيامة : 22 ) .
د – لذا كان فرض الصلاة على العبد بالطريق المشار إليه ، وكانت ضرورية ولصالح الإنسان ، وفي متناوله ، وبنيت على السهل من الأعمال ، والتحبيب النفسي المتاح والمساعد للعبد في لقاء ربه ومناجاته بصفة مباشرة ، وقد تضمنت كل مجريات الوقائع التي حدثت لنبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام من جهة الحركات والأفعال والمضامين المتجلية ، والنتائج المرجوة من فعل الصلاة .
ذ – لو فَهِم المسلم مغازي الصلاة كما تستفاد من معجزة الإسراءوالمعراج ، وعلم أنها لصالحه ، وتعد الوسيلة الوحيدة التي تقربه من ربه كل يوم وبمرات مكررة مقارنة ببقية الشعائر الأخرى ، وليس فيها مقتضى الإجبار كما يشاع ، بل على العكس هي رحمة مهداة ، وجدت من أجل تنبيهه وتحصيل السعادة له ، وجني الثمار…. لو علم كل ذلك لَمَا تهاون وتكاسل ، وغَفِل عنها وهي فرصته الوحيدة والقليلة المقدار ، وبصورتها البسيطة لإنقاذه مما قد يلهيه ، ويتعبه في حياته الزائلة ، ويجعل مصيره – لا قدر الله – مخزيا ومظلما .
ما كتبناه هو شيء يسير مما يمكن استنتاجه من معجزة الإسراء والمعراج ، ويبقى المجال مفتوحا أمام كل دارس منصف للاستدلال بالمعجزات على وحدة الوجود والمصير الآدمي ، كما تعنيه أطوار الحياة الماضية لحد الآن ، وهو وجه جديد يُستَدَل به على ضرورة المعجزة ، وصدقها ، ووظيفتها التربوية والعلمية المشتركة بين حياة الأنبياء والرسل المرسلين ، وبين حياة كل فرد مَرَّ على مسرح هذه الحياة بحسب مستلزمات المكان وزمان الوقوع ، والمسلمون محظوظون كثيرا بالمعجزات الحاصلة لنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام ، وعلى رأسها معجزة الإسراء والمعراج ودلائلها المتضمنة فيها ، الحية في وقوعها والضامنة لاستمراريتها على مستوى الأفعال والنتائج الحسنة المقتنصة .