العَلم رمز انتماء. هو تعبير عن وحدة بلد ومصير مشترك. هو المُعبر عن الدولة، والحامل لهواجس أمة، أفراحها وأتراحها. عبّرت الجماعات عبر التاريخ عن انتمائها عبر ألوان، كما الأسود لآل البيت، والأبيض لبني أمية.
مثلما عبرت الألوان في الأزمنة الحديثة عن اتجاهات سياسية، كما الأحمر للشيوعية، والأخضر للإسلام. كانت للجيوش، في السابق، بنود وألوية ورايات، واستقرت التجربة في العصور الحديثة على العَلم، مُعبرا عن وطن، وبلد، ودولة.
قد تتوزع أمة بين عدة بلدان، وتتوزع على عدة رايات. يظل العلمُ الرمزَ الأبرز لدولة وبلد. يمكن للعلم الوطني أن يتعايش مع رموز لا تلغيه، وقد تغنيه. دول أوربا ترفع أعلامها، وترفع بجانبها علَم الاتحاد الأوربي.
يمكن لمكونات أن تحمل أعلاما جهوية، أو ولايات فدرالية، كما في الولايات المتحدة. ليس هناك تضارب بين العلم الجهوي والعلم الوطني. ولا ينتصب العلم الجهوي بديلا للعلم الوطني. ولا يلغي الانتماء الإقليمي العلم الوطني أو يحجبه.
تحاط رموز الوطن باحترام، وترافقها طقوس. يُقبل الجندي العلَم أو ينحني له، وهو يعرف أنه يُقبل قطعة قماش وينحني لها، ولكنها تحيل إلى انتماء، وتحمل سجل التضحيات التي قد تكون قدمتها أمة مما قد سقاه بنوها بدمائهم ورفعوه بتضحياتهم.
المساس بالرمز هو المساس بسجل التضحية التي يحيل إليها. ولذلك كان حرق علم، أيا كان، مستهجنا. يمكن انتقاد أفراد، وسياسات، واتجاهات بل أنظمة.
يمكن التغاضي عما قد يمَس صور أفراد. لكن لا يسوغ المساس برمز الانتماء، لا يسوغ المساس بالراية. لأنها تحمل رمز التضحية. ذكرى من مات، وأمل من سيأتي.
العلم المغربي رمز الانتماء والمُعبر عن العقد الاجتماعي والمصير المشترك. المساس به هو المساس بهذه المبادئ.
لا يهم كثيرا سياق النشأة. هي رموز، وهي من صنع الإنسان، ومما يُحمّله إياها. ما يهم هو مدلولها.
نَعم الراية المغربية رسمها موظف فرنسي من أصل تلمساني اسمه قدور بن غربيط، وأشّر عليها المقيم العام ليوطي، وحمّلها بن غبريط، اللون الأحمر القاني الذي يحيل إلى مراكش، اسم المغرب حينها، واللون الأخضر لون الإسلام والنجمة الخماسية التي تحيل إلى الأركان الخمسة للإسلام.
لا يهم هذا السياق. قد يفيد المؤرخين. قد يستغرب المرء حين يعرف أن أول راية جزائرية خاطتها فرنسية هي زوج مصالي الحاج. تظل سياقات النشأة جزئيات، وما ليس جزئية هو ما يرمز له العلم.
يرمز العلم المغربي إلى الشعب المغربي من أجل الانعتاق من نَيْر الاستعمار، ويرمز إلى النضال من أجل الوحدة، وهو ساحة الالتقاء بين المكونات الجهوية للمغرب، والعائلات السياسية، وجسر الأجيال بين الماضي والحاضر والمستقبل.
يرمز لتضحيات المغاربة، حيثما يكونون، في عملهم ونضالهم، وطموحاتهم وآمالهم، أفراحهم وأتراحهم.
يتعايش العلم المغربي، مع أعلام محلية وجهوية أو تلك التي ترمز لفئات مهنية، لكنها ليست بديلا عنه، أو نفيا له.
يتعامل المغاربة بهذا الواقع بوعي وذكاء، ويتغاضون عن بعض الغلو، لأنهم يعرفون أن للعلم الوطني مكانته الخاصة. لكن حرق العلم، من قبيل أي كان، شيء آخر. ليس حريةَ تعبير، وليس اختلاف رأي، ولا موقفا قد يُختلف بشأنه.
ما أقدم عليه نشطاء من إحراق العلم المغربي، في باريس، ليس بطولة، ولا نضالا، هو بكل بساطة غباء. لا يستحق حتى الإدانة، بل الاحتقار. هو أكثر من جريمة، هو خطأ.
والخطأ أفدح ممن ينغمر في معمعان السياسة.
ولربما ينبغي أن نتوفر على أدوات قانونية من أجل التصدي لمن يمَس رمز انتماء المغاربة، ويعبر عن وحدتهم ومصيرهم المشترك.
ليس فقط الجنائية، بل المدنية. هل يُتصور مثلا أن يتولى مسؤوليات كبرى من أحرق العلم المغربي؟
والحال أننا تغاضينا عن ذلك، وتغاضينا عمن كاد يودي بحيوات الأبرياء، ووضع المتفجرات، وتولى البعض منهم مسؤوليات كبرى، وقد كانت لهم سوابق في إحراق العلم. والعَلم أسمى من سياسة، وأشخاص أو حتى من نظام.
كناطح صخرة ليوهنها *** فلم يضرَّها، وأوهى قرنه الوعل.
..
نشر المقال بتاريخ 13 نونبر 2019 (نعيد نشره لأهميته)