قبل الدخول جديا في الموضوع الذي يتناول علاقة إسرائيل بالأمم المتحدة، والدور “الملتبس” لهذه المنظمة في كثير من مناطق العالم، وخاصة في فلسطين والشرق الأوسط، رأيت بعد الإستماع الى كلمة الأمين العام للمنظمة الدولية السيد انطونيو غوتيرس في مؤتمر القمة العربية الأخير في البحرين، ومن أجل جعل الجو أقل “توترا”، أن أبدأ بتساؤل “ميتافزيقي” فحواه، أنه ماذا لو في عصر “ما بعد بعد الحداثة”، توفرت الإمكانية “لتبادل” الزعماء، وكان اقتراح بتبادل “غوتيرس” مقابل اثنين وعشرين زعيما من عندنا؟. لو كان ذلك حقيقيا لوافقت بلا تردد، ولرضيت أيضا إضافة ما يقارب الأربعمئة وزير، والعديد من الأمناء العامين، إلى الصفقة إن كان ذلك يسهل عملية التبادل.
عودة إلى موضوع إسرائيل والأمم المتحدة بجدية أكبر. لقد راقب كثيرون ذلك المشهد الذي يقوم فيه مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، بتمزيق ميثاقها (ميثاق العالم)، إثر تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار بأهلية فلسطين لعضوية كاملة في المنظمة الدولية، وذلك بعد إفشال الولايات المتحدة قرارا لمجلس الأمن بهذا الخصوص.
لكني أميل إلى الاعتقاد أن “درامية” هذا المشهد، قد حالت دون أن ينتبه كثيرون، إلى تلك الكلمات التي وجهها ذلك الدبلوماسي الاسرائيلي “المخضرم”، والوزير السابق، جلعاد أردان، إلى مندوبي العالم، حيث قال وهو يقوم بوضع الميثاق في ماكنة التمزيق التي أحضرها: “هذه مرآتكم لتروا ماذا فعلتم بالميثاق بهذا التصويت المدمر… أنتم تمزقون ميثاق الأمم المتحدة بأيديكم.. العار لكم”.
كان أردان وهو يتلفظ بتلك الكلمات، ممثلا حقيقيا ونمطيا (وليس رسميا فقط) لإسرائيل وللصهيونية… يقوم بتمزيق الميثاق ويقول لمندوبي دول العالم “أنتم تمزقون الميثاق بأيديكم “، تماما كما تفعل إسرائيل، تقتل وتتهم ضحاياها بالإرهاب، تعتدي على الآخرين وتتهمهم بتهديد أمنها، تمارس الإجرام وتتهم الأبرياء بالوحشية، تمارس العنصرية وتتهم من يقع عليهم ذلك بمعاداة السامية.
بالطبع، لم يكتف المندوب الاسرائيلي باتهام أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بتمزيق الميثاق، بل قام بتحقيرهم ووجه لهم الشتائم مباشرة وبوضوح وبلا مواربة، فقال لهم إن ما قاموا به هو “عمل غير أخلاقي”، ولم ينس التطرق إلى “اللازمة” التي يجب أن يختتم كل صهيوني حديثه بها، وهي التطرق إلى الهولوكوست الذي يعتبر السلاح الأنجع عندما تصل الأزمات إلى ذروتها، فقال لمندوبي العالم، بأن الأمم المتحدة “تكافيء الفلسطينيين في ذكرى الهولوكوست”، ونسي أو ربما تناسى، أن من ارتكب الهولوكوست هم أعز أصدقاء اسرائيل، وليس الفلسطينيين أو من صوت لصالحهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الأمم المتحدة وإسرائيل
يمكن وصف علاقة الأمم المتحدة باسرائيل بأنها علاقة حب من طرف واحد. هذا النوع من العلاقة لا يقتصر على الأمم المتحدة، بل على الجميع عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع إسرائيل، التي ترى أن من “واجب” الآخرين “حبها” وخدمتها والعمل لصالحها، لإثبات أهليتهم لنيل رضاها. إنها تعتبر أن الموقف منها هو الموقف من الحقيقة ومن “الله”، وأن موقف الآخرين منها لن يغير “حقيقتها” ولا “قدسيتها” إنما يؤثر سلبا أو إيجابا على صاحب الموقف نفسه. لذلك هي إما ترضى عن الآخرين أو لا ترضى، وتُقَيمهم وتتصرف حيالهم في ضوء ذلك.
ما قدمته الأمم المتحدة لإسرائيل لا يقدر بثمن، ولم يتم تقديمه لأي دولة أخرى في العالم. ابتدأ ذلك مبكرا قبل إنشاء إسرائيل بعام واحد وبعد إنشاء الأمم المتحدة بعامين، عندما أقرت المنظمة الدولية قرار تقسيم فلسطين رقم 181 للعام 1947، والذي ينص على ضرورة إنشاء دولتين في فلسطين (يهودية وعربية)، وبذلك وضعت الأساس القانوني لإنشاء دولة اسرائيل.
وفي قرار الأمم المتحدة رقم 273 في 11 مايو 1949، أي بعد الإعلان عن تأسيس دولة إسرائيل بعام واحد، تم قبولها عضوا كاملا في الأمم المتحدة، لأن الجمعية العامة اعتبرتها، وبناء على ما قدم لها مجلس الأمن من معلومات، “دولة محبة للسلام، راضية بالالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، قادرة على تنفيذ هذه الالتزامات وراغبة في ذلك ” (هكذا مرة واحدة وخلال عام واحد).
كما أن الأمم المتحدة التي أقرت في ظرف تاريخي مميز، في 10 نوفمبر 1975 اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، عادت وعدلت عن ذلك القرار، وفي حالة استثنائية لم تتكرر، تم إلغاء ذلك القرار بآخر صدر في 16 ديسمبر من العام 1991.
ومما عملته الأمم المتحدة لإسرائيل، أن بعض اتفاقياتها مع دول عربية، مثل اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، تم اعتمادها من قبل مجلس الأمن، حتى تصبح اتفاقية دولية———- يصعب الغاءها——— أو تعديلها فيما لو أراد ذلك أحد من أطرافها. ومن المهازل “اللئيمة” في هذا المجال، أن اتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل، التي تمت في العام 2005، وكانت في صالح اسرائيل بشكل صارخ، قد تم اعتبارها جزءا من اتفاقيات كامب ديفيد التي تمت قبلها بسبعة وعشرين عاما (1978)، حتى تكتسب ذلك البعد الدولي الذي يجعل من المستحيل إجراء أي تعديل عليها أو إلغائها.
إسرائيل والأمم المتحدة
لكن ماذا كان رد فعل إسرائيل على كل ذلك الذي قدمته لها الأمم المتحدة؟. منذ البداية قامت اسرائيل باحتلال مناطق شاسعة من تلك التي تم تخصيصها للدولة الفلسطينية التي نص عليها قرار التقسيم، بل وقوضت إنشاء تلك الدولة التي يفترض أنها توأمها في ذلك القرار، وذلك بأن دفعت باتجاه وضع الأراضي التي بقيت خارج سيطرتها عند توقف القتال في العام 1948، تحت “الوصاية” العربية.
كما أن اسرائيل، وبعد أشهر من تأسيسها، قامت (هي وعصاباتها) باغتيال مبعوث الأمم المتحدة الى فلسطين الكونت برنادوت، وذلك في 17 سبتمبر 1948، بعد أن دعا لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ووجوب دفع تعويضات لأولئك الذين يقررون عدم العودة. الكونت برنادوت شخصية دبلوماسية عالمية، وهو أحد أفراد العائلة المالكة في السويد، وكان قبل مهمته الأممية في فلسطين، رئيسا لمنظمة الصليب الأحمر السويدي، لكن كل ذلك لم يغفر له دعوته لعودة اللاجئين فتم اغتياله.
لم تمتثل إسرائيل يوما لأي قرار أممي رأت فيه مصلحة ما للفلسطينيين، رغم أن تلك القرارات كانت نادرة بسبب وقوف الولايات المتحدة والغرب ضدها. أجهضت قرار التقسيم، ولم تنسحب من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967، وقامت بضم القدس وكذلك الجولان السوري، ولا تكف عن إقامة المستوطنات، وترتكب باستمرار كل الجرائم التي نص ميثاق الأمم المتحدة على تجريمها.
لا تترك إسرائيل فرصة لإهانة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة إلا وتقوم بها. عملت ذلك مع اليونسكو كلما اعتبرت مكانا أو تراثا على أنه فلسطيني. وعملت ذلك مع محكمة العدل الدولية، لمجرد أنها قبلت النظر في دعوى جنوب إفريقيا حول ارتكابها لجرائم الإبادة. وعملت ذلك مؤخرا عندما مزق مندوبها في الأمم المتحدة ميثاق المنظمة الدولية، وأهان العالم.
عبر تاريخها، لم تقدم المنظمة العالمية الأرفع لأية دولة مثلما قدمت لإسرائيل، من تبني تأسيسها، إلى أكبر شهادة زور في سلوكها، إلى تغطية جرائمها وتشريع اغتصابها لأراضي الآخرين. بالمقابل لا توجد دولة في العالم مثل إسرائيل، قابلت كل ذلك “المعروف” بكل ذلك الجحود، وأهانت الأمم المتحدة وأمينها العام كما لم تفعل أية دولة أخرى في العالم.
أزمة الأمم المتحدة
ليست إسرائيل سبباً في أزمة الأمم المتحدة بقدر ما هي أحد أهم مظاهر تلك الأزمة، فهي بتصرفها الأرعن ضد القانون الدولي، وإهانتها للمنظمة الدولية كمؤسسة وكأفراد، ولجوئها المستمر إلى حماية “الأب” الأمريكي، وتهديدها الذي بات مكشوفا وممجوجا لكل من يخالفها بمعاداة السامية، إنما تدل على عمق الأزمة التي تعيشها المنظمة الدولية، تلك الأزمة التي تشير بدورها إلى أزمة النظام العالمي، الذي وصل ذروة لا معقوليته إثر تفرد أمريكا بالهيمنة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لقد سبق التمزيق الرمزي لميثاق الأمم المتحدة من قبل مندوب إسرائيل “تمزيقا” حقيقيا له من قبل الولايات المتحدة، عندما دعمت إسرائيل وهي ترتكب كل هذه الانتهاكات بحق الفلسطينيين وبحق البشرية، وكذلك عندما ارتكبت الولايات المتحدة نفسها الجرائم في العراق وأفغانستان وسوريا، وقبل ذلك في فيتنام ودول عديدة أخرى. لقد أدارت الولايات المتحدة ظهرها لجوهر ميثاق الأمم المتحدة، الذي يدعو إلى حفظ السلم الدولي وإلى العدل والكرامة الإنسانية، فوقفت رسميا ضد وقف إطلاق النار في غزة، رغم الدعوات المتكررة للأمين العام للأمم المتحدة لذلك، وأدارت ظهرها لمصالح الشعوب المستضعفة في كل أرجاء المعمورة.
ليست المشكلة في الأمم المتحدة ولا في ميثاقها، بل المشكلة الحقيقية في النظام الدولي الذي يسمح لدولة مثل إسرائيل، وحتى مثل الولايات المتحدة، بانتهاك هذا الميثاق، وبتهديد السلم العالمي، وبارتكاب كل الفظائع التي لم تعد البشرية مستعدة لقبولها لفترة أطول.
لا بد للنظام الدولي العتيد الذي بدأت بشائره تلوح في الأفق، أن يراعي مصالح الشعوب المستضعفة، وأن يعيد كثيرا من القيم الإنسانية التي تراجعت أو اختفت في النظام الحالي، وأن يعتمد الإنصاف في تمثيل شعوب العالم خاصة في آسيا وافريقيا والشرق “الاسلامي” وأمريكا اللاتينية، ذلك الذي يتطلب———- أن تكون دول “محترمة” مثل جنوب إفريقيا والبرازيل، أعضاء مؤثرين———– في أي منظمة تمثل دول العالم وشعوبه.
كما ينبغي أن تمتلك المنظمة العتيدة، آليات تمكنها من تنفيذ قراراتها، ومن حماية المستضعفين، وقبل ذلك تستطيع حماية نفسها من الابتزاز السياسي والمالي الذي تمارسه الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.. ربما سنرى منظمة دولية بهذه المواصفات في قادم الأيام، وسنفرح كثيرا إذا ما كان في وسط حديقتها الأمامية——— نصب تذكاري وشعلة “للخلود” لضحايا غزة،——— الذين وضعوا حجر الأساس للإنسانية القادمة.
ما قدمته الأمم المتحدة لإسرائيل لا يقدر بثمن، ولم يتم تقديمه لأي دولة أخرى في العالم. ابتدأ ذلك مبكرا قبل إنشاء إسرائيل بعام واحد وبعد إنشاء الأمم المتحدة بعامين.
مما عملته الأمم المتحدة لإسرائيل، أن بعض اتفاقياتها مع دول عربية، مثل اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، تم اعتمادها من قبل مجلس الأمن، حتى تصبح اتفاقية دولية———- يصعب الغاءها——— أو تعديلها فيما لو أراد ذلك أحد من أطرافها.
لا تترك إسرائيل فرصة لإهانة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة إلا وتقوم بها. عملت ذلك مع اليونسكو كلما اعتبرت مكانا أو تراثا على أنه فلسطيني. وعملت ذلك مع محكمة العدل الدولية، لمجرد أنها قبلت