بقلم: عبد اللطيف اليوسفي ـ
استمتعت بقراءة الإصدار الجديد للكاتبة والباحثة فوزية رفيق الموسوم ب” سارليكسيا.. البوح الشفيف”، ومن خلال هذه القراءة المتأنية اطلعت على تجربة تربوية جديرة بالتأمل.
من خلال ذلك، تداعت عندي الكثير من الملاحظات والخلاصات، أنتقي لك منها بعضا على غير ترتيب بالأهمية :
إن أول خلاصة نتقاسمها ويقدم عليها الكتاب أدلة عملية هي : أن المدرسة المغربية ليست عاقرا كما يحلو للبعض نعتها ونخص بالحكم أساسا المدرسة العمومية التي تحتضن تجارب جديرة بالاحترام . كما أن الكتاب يقدم دليلا آخر على ما اعتبرناه بدهيا وهو أن : أدوار المدرسات والمدرسين عامل أساسي وحاسم في النجاح والتقدم والإصلاح التربوي عموما .
من تمة فإن المدرسة مهما كانت نجاحاتها ليست معنية بوظيفة التدريس والتعليم والتقييم ونتائج الامتحانات فقط بقدر ما هي مؤسسة إنسانية تتفاعل فيها العلاقات ، ومؤسسة تربوية بالأساس ويشكل فيها التواصل الإنساني الصادق و الجيد رافعة أساسية للوصول إلى الأهداف التي يلزم أن يتمثلها المدرس جيدا ويؤمن بها ويناضل و يضحي من أجلها .
وفي السياق ذاته، يمكن الحديث هنا عن أن مراكز الاستماع بما هي قناة من قنوات الحياة المدرسية النشيطة تعلب أدوارا كبيرة ومهمة في المدرسة ويلزم أن يعتنى بها وأن تقدم التسهيلات والتشجيعات للأستاذ أو الأستاذة المهتمين بها وأشكال التشجيع كثيرة ومتنوعة .
وهو ما يؤكد بالضرورة اعتبار إشعاع مراكز الاستماع الناجحة لا يقف عند المدرسة وأسوارها المنيعة وإنما يتعداها إلى خارج الأسوار وأبرز تجربة يقدمها الكتاب جاءت من خارج ثانوية عودة السعدية ولكن بعنصر نشيط منها .
إن المدرسة المغربية مليئة بتجارب حري بأصحابها وفرسانها أن يوثقوها ويدونوها بالحبال الموثقة ويسجلوها صونا للذاكرة التاريخية ، وإفادة للأخريات والآخرين وتقاسما للتجارب . كما إن الحالات التي تم انتقاؤها في هذا الكتاب الهام دالة- ما في ذلك شك -ولكن هناك -من غير ريب -حالات أخرى كنت أتمنى أن يقدمها الكتاب- ولو بنسبة واحد من عشرة- وخاصة تلك الحالات المعقدة التي لم يستطع مركز الاستماع معالجتها، وعجز عن حلها أو متابعتها فذابت بتعقيداتها في الحياة القاسية العنيدة ؛ ليعلم القارئ أن النجاحات مسجلة وحاضرة بقوة ولكن الإخفاقات أيضا ما تزال عنيدة وتشكل تحديا للإرادات مهما كانت سليمة ومناضلة وصادقة . وهو أسلوب يحقق كما تعلمين مطلب التنسيب الضروري في الحكي عن تجاربنا الرائدة.
وخلال ذلك، يحضرني سؤال جوهري، حول التجربة المبثوثة في (سارليكسيا..)، والتي نسجت فيها الكاتبة ومن خلالها علاقة بين تلميذاتها الإناث ، بمن فيهن “سارة” من خارج المؤسسة: أفلا يكون هذا العامل ، “كل جنس إلى جنسه يألف” ، ذا دلالة قوية ومؤثرة في نجاح التجارب المعروضة في الكتاب ؟؟؟ .
من الملاحظ، بهذا الخصوص، أن الشهادات الرائعة والمشجعة في ختام الكتاب كلها من هذا الصنف. إنه اعتراف أنثى لأنثى. علما أن السؤال لا علاقة له بالمشاغبة أو التقليل أو “التنمر “على التجربة المتميزة والتي أعتز بها كثيرا، بقدر ما هو سؤال تأملي يطل برأسه في ثنايا تحليل التجربة. ولا ينتظر بالضرورة جوابا .
فإذا كانت تجربة مركز مؤسسة عودة السعدية التعليمية، مختبر التجربة الموثقة، متميزة وتفتح لنا ذراعيها للقراءة والاستفادة وربما للتمثل والمحاكاة، فإن هناك أسئلة تطرح علينا ونحن نهتم بالمدرسة ككل وبالمدرسة المغربية خاصة وهذه الأسئلة كثيرة من قبيل:
ـ ما الحالة التي تعيشها مراكز الاستماع في المؤسسات الذكورية؟ حيث التلاميذ يعيشون مشاكل مغايرة عن تلك التي قدمتها “سارليكسيا” ؟؟؟. وأكاد أجزم بأن للذكور من التلاميذ خصوصيات أتمنى أن يطلعنا عليها مناضلون ومناضلات من أمثال الكاتبة فوزية رفيق، في هذه المؤسسات. وسيكون بودنا لو تعرفنا على مراكز تشرف عليها استاذات لمساعدة تلاميذ وتجارب يشرف عليها أساتذة رجال يساعدون تلاميذا من نفس الجنس.
إن التعدد هنا مفيد. ولا أقصد بالمرة أن كتاب (سارليكسيا ..) كان عليه أن يقدم مثل هذه التجارب. أبدا؛ ولكن أتطلع فقط إلى تقاسم التجارب المتنوعة للاقتراب من إصدار الحكم .ثم إن هناك وضعية مختلفة بالتأكيد في المؤسسات المختلطة حيث تتعايش الإناث مع الذكور ويعيش الطرفان تفاعلات عاطفية وثقافية وتربوية وتنافسية لها ميزاتها ونكهاتها. والأمل أن نجد غدا تجربة لمركز من مراكز الاستماع يبوح ببعض مكنوناته لنا لنقارن ونستخلص الخلاصات التربوية الضرورية.
وأسجل هنا، اتفاقي تماما مع الحكم السديد الذي أصدره الأستاذ محمد الدريج في شأن الكتاب وبخصوص التجربة التي قدم لها. فالكتاب يضم بين دفتيه تجربة تربوية وإنسانية متميزة تدل على أن المدرسة المغربية تحتضن تجارب جديرة بالتأمل و التشجيع والتقاسم.
فهنيئا لنا بشجاعة الكاتبة التي أعانت على النشر والتوثيق بلغة أنيقة وسليمة وأخاذة تأسر القارئ وتأخذ بيده بلطف وكياسة وأنك تعتبرين القارئ ضيفا على مركز الاستماع .
إنني وأنا أختم هذه النقط السريعة إثر إتمام قراءة الكتاب. لا بد أن أنوه بالمجهود وأن أعبر عن إكباري الخاص بالشجاعة في التدوين والتوثيق والإقدام الشجاع على الطبع والنشر. وتلك شجاعة خاصة تستحق الكاتبة عليها كل التنويه وكل التقدير. فكم هي التجارب النيرة التي ذابت، وطالها النسيان؛ لأن صاحباتها وأصحابها لم يتحلوا بشجاعة التدوين والتوثيق.