‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د إياد البرغوثي: حتى لا تكون فلسطين ضحية نيران “فكرية” صديقة

في الطب يتم وصف العلاج بعد تشخيص الحالة، لكن في السياسة “الفلسطينية”، العلاج موجود ومتفق عليه، ومطلوب ممن يريد تشخيص الحالة أن يفعل ذلك انطلاقا من حقيقة الوجود المسبق للعلاج و”وحدانيته”. ما نريد قوله هنا، أنه ضمن هذا المنطق، فإن “الاتفاق” الفلسطيني مع إسرائيل هو الذي عليه أن يحدد موقفنا منها ومن مشروعها الصهيوني وليس العكس.
لا أقول هذا من باب إصدار حكم على السياسة الفلسطينية فهذا أمر بات لا لزوم له الآن، إنما من أجل الحديث عن تأثير ذلك المنطق “المقلوب” في السياسة، على الحالة الثقافية الفلسطينية، وعلى شريحة “ليست قليلة” من المثقفين الفلسطينيين.
فهذا الواقع السياسي “الغريب” ، ليس فقط في وجوده بل وفي منطقه المقلوب، أنتج أسئلته “الخاصة”، التي اعتمدتها تلك الشريحة من المثقفين الفلسطينيين قاعدة للتفاعل مع الأمور ذات الصلة، وبناء المواقف من الذات ومن الآخر ومن القضية الفلسطينية وكل ما يجري.
أسئلة ملتبسة

لم تعد أسئلة الفلسطينيين “المألوفة” كشعب تحت الاحتلال، وفي صراع معه منذ أكثر من قرن من الزمان، أسئلة هذه الفئة من المثقفين، بل تم استبدالها بأسئلة أخرى أكثر استجابة لحالة الوهن التي وصلتها السياسة الفلسطينية، وأكثر تأثراً بالحالة الإسرائيلية، التي عملت طوال تلك السنين على تجريد الفلسطينيين من سلاحهم الفكري، إضافة إلى المادي بالطبع، ونجحت في مكان ما، ليس فقط في إقناع جزء مهم من الرأي العام العالمي “بصدق” روايتها، بل وفي تقريب بعض من هؤلاء المثقفين من تلك الرواية، خاصة التي تروج لفكرة “التفوق” الإسرائيلي حتى في موضوع الرواية، وبالأخص في الجانب “الأخلاقي” منها. كما نجحت في “تسويق” مقولة شمعون بيرس بأن “الفلسطينيين خبراء في إضاعة الفرص” التي تعني أن الفلسطينيين هم سبب نكبتهم. هذا يشبه تماما الحالة التي تعتبر فيها الفتاة مسؤولة عن اغتصابها لأنها لو لم تقم باغواء الجاني لما قام بفعلته.
في ظل هذا النهج الفكري لهذه الفئة من المثقفين، والذي بات أكثر وضوحاً نظراً لحجم الجرائم الاسرائيلية في غزة، استُبدِل سؤال مواجهة العدوان باسترضائه. واستبدل سؤال الحق بالممكن فاقتصر عليه، ولم يعد غير الممكن من الحق حقاً. واستبدل سؤال العدل بسؤال السلام، ذلك المفهوم الذي يحتوي مساحة كبيرة من الخداع والتحايل على الضعيف. وحلّ سؤال الأمن للمعتدي مكان سؤال الأمن للضحية. كما استُبدل سؤال الحرية والتحرر بسؤال العيش والبقاء… باختصار، تم استبدال أسئلة الثوار بأسئلة العبيد.
أشياء هامة ترتبت على هذا النمط “المقلوب” من الأسئلة، فهي تسلم بفكرة التفوق الإسرائيلي “الأبدي” على الفلسطينيين، بل بفكرة تفوق الاسرائيلي الفرد على الفرد الفلسطيني التي لا تعني غير الايمان بعنصرية “مرتدة” يجري فيها احتقار الذات أكثر مما هي موقف من الآخر.
أدى ذلك إلى وضع يقتضي ضرورة أن تتفهم الضحية قاتلها، وأصبح ذلك المثقف يبحث في الماضي وفي الحاضر عن مواقف شعبه لإعادة تقييمها في ضوء ما وصل له من استنتاج، يتلخص في أن شعبه الفلسطيني هو الذي أخطأ بحق نفسه، وهو الذي يجب أن يُلام وليس أي طرف آخر، والذي قام به الاسرائيليون ما هو إلا رد فعل على هذه الأخطاء.
كثيراً ما يثير هذا النمط من المثقفين أسئلة الماضي بشكل يؤدي “تلقائيا” إلى إعفاء اسرائيل من أية مسؤولية وتحميلها للفلسطينيين.. ماذا لو وافقنا على قرار التقسيم؟، وماذا لو لم نقم بالانتفاضة؟، وماذا لو لم يكن الطوفان؟… هذه أسئلة تحمل الفلسطينيين مسؤولية كل ما جرى، وتغض الطرف تماما عن دور الاحتلال، وعن المشروع الصهيوني وما فعل منذ بداية القرن الماضي.
التنظير للهزيمة
منطق “الأسئلة” هذه، وما يترتب عليها من “مسلمات” ونتائج “محسومة” سلفا، تجعل المثقف من هذا النمط، ليس مهزوما فقط، بل حاملاً لمشروع الهزيمة، ومنظراً لها، وباحثاً عن عواملها في الإصرار على عوامل الضعف عند الفلسطينيين الحقيقية منها والمتخيلة، وعوامل القوة عند الاسرائيليين، الحقيقي منها والمتخيل ايضا.
هو مثقف تختلط في فكره المفاهيم، فتختفي المسافة عنده بين الرضوخ و”الحكمة”، وبين الاستسلام و”العقلانية”. ويعتبر أي “تعاطف” مع مقاومة الاحتلال نوعاً من الشعبوية والتَهَوُر. يُتفه التضحية، وشعوره تجاه المضحين الشفقة في أحسن الأحوال، فالتضحيات عنده بلا جدوى، ويقوم بالتركيز على الخسائر التي “تنتج” عن المقاومة ويضخمها، ولا ينظر إلى خسائر “الجانب” الآخر وإن فعل يقوم باستصغارها.
هو يؤمن تماما أننا “مهزومون” سلفا وبالتالي لا داعي لأي فعل. فكره لا يتعدى الإيمان “بفقه” الهزيمة، وما دام العدو سيهزمنا إن قمنا بأي فعل فما علينا إلا أن “نهزم” ذاتنا ونستريح، وأن نؤمن بأن لا مجال لوضعٍ أفضل مما نحن فيه. ما يدعو إليه من “عقلانية” ليس أكثر من خلق حالة من الاستعداد التلقائي لاعتبار الهزيمة حالة ليست الأسوأ. هذا النوع من المثقفين لا يكتفي بأن يكون مهزوما، بل هو حامل لمشروع الهزيمة، مهمته النضال لتعميمه على الأمة، والدعوة لاعتماده استراتيجياً.
من هو هذا المثقف
حتى نكون منصفين، ليس كل من تم تصنيفه ضمن هذا النوع من المثقفين مشابه للآخر في منطلقاته، رغم أن الجميع يتشابهون في اعتماد “العقلانية” كنهج، والحرص على “منجزات” السلام، ككابح لأي فكر “مزايد” كما يقولون. وهم في دعوتهم إلى الحرص على “المنجز”، يتبنون ضرورة أن لا يكون هناك أية مبادرات “فكرية”، ولا أية رؤى قد تحرك الساكن من الحال، فالسكون والرضا و”الوداعة” هي أركان الاستراتيجية الفلسطينية المطلوبة من قِبَلهم.
ومن أجل أن يقوم ذلك المثقف بتبرير دعوته لعدم التحرك وضرورة الالتزام بأركان “الاستراتيجية” المؤمن بها، يقوم “بتضخيم” الخسائر التي قد تترتب على القيام بأي فعل خارج تلك “الاستراتيجية” المؤمن بها، والتركيز عليها دون غيرها. وحتى لا يظهر أنه غير مبال تجاه الاحتلال، يبالغ في الحديث عن أهمية الخلافات الداخلية في اسرائيل، ويعتبر أن تلك الخلافات ستتنامى شريطة أن لا نقوم نحن بأية “حركة” تحرفها عن مسارها، وتقوم بتوحيد الاسرائيليين مرة أخرى. كل ما على الفلسطينيين فعله هو أن لا يفعلوا شيئا وسيجدوا أن الأمور تتغير لصالحهم.
إذا كان لا بد من الحديث عن إسرائيل، فهذه الفئة من المثقفين تقر أنها دولة احتلال، لكن هذا الاحتلال نائم “لعن الله موقظه”، إذ يمكنه أن يكون أكثر سوءا إذا ما دفعناه “نحن” لذلك.
إن ممارسة “القوي” للبطش والإجرام هو أمر عادي و”منتظر” لدى هؤلاء، لكن غير العادي وغير المقبول هو مواجهة ذلك، لأنه لن يجلب إلا الكوارث حسب ما يعتقدون. هذا المثقف يتعامل مع إسرائيل كقوة أبدية، ومع الفلسطينيين كضعف أبدي ايضا.
عودة إلى “أصناف” هؤلاء المثقفين، فمنهم ذلك المثقف الليبرالي الذي قطع شوطا من الاغتراب عن “التخلف” الشرقي. هو لا يرى في “الشرق” إلا التخلف والانكسار، ويعزو لذلك التخلف كل ما يرتكبه الغرب “الاستعماري” وإسرائيل من “موبقات”.
كذلك يفعل المثقف الأصولي “العلماني” من هؤلاء، ذلك الذي يكون عادة ثورياً جامحاً ومتمرداً في الأمور الاجتماعية، لكنه المحافظ والمستكين والقنوع وطنياً. وهو الذي ينتصر للثورة لكن كما “حفظها” وحسب “المقاسات” التي يتصورها. يمدح المقاومة، لكن “مقاومته”، وهو في النهاية يفضل “الخنوع” والهزيمة على ثورة “بدون نظرية ثورية”.
لكن الصنف الغالب في هؤلاء المثقفين، هو ذلك المثقف الذي يمكن تسميته بالمثقف “المرافق”، بكل ما تحمله كلمة المرافق من معنى في الحالة الفلسطينية.
وظيفة ذلك النمط من المثقفين تتلخص في تبني وجهة نظر من يرافق، زعيما كان أو هيئة، واتباع من يرافق في حالاته المختلفة، فهو مرافق للحالة وحارس لها، سواء كانت تقدماً أم تراجعاً، نصرا أم هزيمة. هو ثابت في التغير مع من يرافق وما يرافق، فإذا ثار يثور معه، واذا “استسلم” يستسلم معه، وينتصر معه إذا انتصر، ويهزم معه اذا انهزم، بل وكثيراً ما يُهزم عنه إذا استدعى الأمر.
إذا ما تابعنا بعض ما “يرَوٍج” له ذلك المثقف، نجد إلى جانب التركيز على الخسائر الذاتية وتضخيمها، تتفيه أي إنجاز تقوم به المقاومة الفلسطينية، والتهوين والتشكيك في أي متضامن، دولة كانت أو هيئة أو حزبا أو حتى أفرادا، وخلط الأوراق عند الحديث عن استراتيجيات ومواقف القوى الدولية من فلسطين، فتتم المساواة بين إيران وإسرائيل، واليمن وجوارها، وحزب الله والقوات اللبنانية، والحديث عنها كأنها تنطلق في مواقفها من نفس المنطلقات، ويتم ذلك تحت شعار “الموضوعية” بالطبع.
وعند حديث هؤلاء عما يجري في غزة، لا يتم اعتبار ذلك معركة يخوضها الفلسطينيون في إطار سعيهم للتحرر، بل هي معركة “الآخرين” يخوضها طرف فلسطيني محدد، ويورط بقية الفلسطينيين فيها.
باختصار
أردت لهذا المقال أن يكون بمثابة “نصيحة” – إن كان لي أن أكون في موقع الناصح -، لذلك المثقف الفلسطيني و”العربي” الذي ينطبق عليه ما تم تناوله، لأقول له أنه وانت تجهد النفس والعقل كي لا تكون “شعبويا” في مثل هذا الوضع “الاستثنائي” الذي تقوم به إسرائيل بحرب إبادة في غزة، يفترض أن تحرص بنفس القوة، على أن لا تذهب إلى المكان الذي تكون فيه “حاملا” ومسوقا لمشروع هزيمة. من الطبيعي أن يشعر الإنسان وربما المثقف أكثر من غيره بحالة من الإحباط والانكسار، لكن عليه أن يحصر هذه الحالة فيه هو ولا ينقلها إلى الآخرين حتى تزول.


كثيراً ما نسمع عن ضحايا بفعل نيران “صديقة”، وبتقديري أن أخطر أنواع النيران الصديقة هي الموجودة في مجال الفكر. وحتى لا تكون فلسطين ضحية نيران صديقة مصدرها مثقفون فلسطينيون، يجدر بالمثقف الفلسطيني كما هو حال أي مثقف، أن يكون باعثا للأمل، وعاملا من عوامل النصر، خاصة وأن جهات كثيرة و”محترمة” في العالم باتت مقتنعة أن ليس هناك من قضية في عالمنا المعاصر، أكثر نبلاً وعدلاً من قضية فلسطين.

كثيراً ما يثير هذا النمط من المثقفين أسئلة الماضي بشكل يؤدي “تلقائيا” إلى إعفاء اسرائيل من أية مسؤولية وتحميلها للفلسطينيين

‏مقالات ذات صلة

Back to top button