كيف يمكن للقارئ وهو على وشك الانتهاء من مطالعة أحد كتب عبد الله العروي ألا يتساءل عن السبب الذي يدفعه إلى استعمال مفردة “الأعجمية” في قائمة المراجع لتمييز النصوص الأجنبية التي يعتمدها في دراساته عن “العربية” واللجوء إلى عبارة “فهرس المؤلفين بالأعجمية” مقابل “فهرس المؤلفين بالعربية”؟ وقد يذهب القارئ ذاته إلى حد التساؤل كذلك: هل من المعقول أن يغيب عن باحث يكرس حيزا كبيرا من اهتماماته لفكر القدامى ولغتهم المدلول الاشتقاقي لمفردة “أعجمي” (“الذي لا يُفصح”، ابن منظور، وحتى الذي لا يتكلم، كما ورد في الحديث النبوي “صلاة النهار عجماء”) والتي قد تستعمل في بعض السياقات بمعنى “بهيمة” (“استُبهم عليه: استُعجم فلم يقدر على الكلام”، ابن منظور)؟ ولا أدل على ما نقول من أن العروي نفسه يتحدث عن الشاهدة التاريخية على أنها “دائما مستغلقة لأنها كالصخور البهماء” وعلى المؤرخ أن يجعلها “تحيا من جديد وتنطق”، وليس هذا فحسب، بل إنه لا يتردد في استعمال مفردة “عجماوات” لترجمة مفردة “bêtes” (“حيوانات”) كما وردت في كتاب جان جاك روسو الذي نقله إلى العربية تحت عنوان “دين الفطرة”.
فلو كان العروي متشبعا بما فيه الكفاية بروح العلوم الاجتماعية التي يجهد باستمرار في الرجوع إليها والاحتماء بها على نحو يطرح من الأسئلة أكثر مما يساعد على الإجابة عنها، لكان على اطلاع ووعي بقيمة ما يقوله أحد أقطاب الأنثروبولوجيا البارزين وهو كلود ليفي ستروس في هذا الشأن وما مفاده: إذا كانت عبارات من قبيل “برابرة” (معناها الاشتقاقي “تغاريد الطيور”) و”متوحش” (sauvage ومعناها الاشتقاقي “قادم من الغابة”) التي تستعملها بعض الثقافات للحديث عن الأجنبي تدل على شيء فعلى أن الإنسان ميال بطبعه إلى رفض مبدأ التنوع الثقافي “ويفضل بدل ذلك الإلقاء خارج الثقافة، في حضن الطبيعة إذن، بكل ما يبتعد عن المعايير التي يتبعها هو، وهذا ما تعبر عنه مفردة Naturvölker الألمانية”(“الأنثروبولوجيا في مواجهة مشاكل العالم الحديث”، ترجمة رشيد بازي).
قد يقال بأن العروي باستعماله لهذه المفردة لا يفعل أكثر من التشبث على نحو قد يبدو إلى حد ما مبالغا فيه بالمبدأ الأساسي الذي يرتكز عليه في التحليل والترجمة وهو “التعريب” (المفردة التي يفضل استعمالها بدل مفردة “الترجمة” نظرا لحمولتها الفارسية الثقيلة ومفردة “النقل” العربية إلا أن طابعها القومي باهت لا يكفي لإحداث الوقع المرجو، وليس من المبالغة في شيء القول بأن حرية التصرف التي يبيحها لنفسه في تعامله مع النصوص المترجمة تجعل من “تعريبه” مجرد محاكاة شائهة لها). إلا أن هذا الاستعمال لهذه المفردة على هذا النحو بالضبط قد يتخذ حجما آخر في حالة أدمجناه في مواقف أخرى يعبر فيها العروي عن رغبة مستميتة في إقصاء الآخر وكبت كل ما من شأنه أن يدل على نحو من الأنحاء على حضوره في الكيان “العربي الإسلامي”.
من هنا رفضه الثابت الإقرار، على سبيل المثال، بأن مفردة “مسلمين” لم تُحل إلى كتلة واحدة موحدة في يوم من الأيام، وبأنها تشمل طيفا كاملا من شعوب وحضارات متباينة ومتباعدة لكل منها خصوصيات لا سبيل إلى تخطيها. فعندما يطرح مسألة “الثنائيات” في “التاريخيات” يذهب إلى أن الثنائية الخاصة باليونان هي الملحمة والتاريخ و”عند المسلمين الأخبار والحديث، الرواية والدراية، ابن حجر وابن خلدون” (“مفهوم التاريخ”) ويتابع على نحو أكثر وضوحا ودقة: “يمكن القول إن الملحمة هي تاريخ الآلهة والأبطال العمالقة وأن التاريخ هو ملحمة الملوك وأعوانهم”. إذ أن التقسيم الذي يعتمده العروي من شأنه أن يقصي الفرس، النموذج الذي يحيل إليه في سياقات أخرى، من حضيرة “المسلمين” ويلحقهم باليونان دون تماهيهم معهم. فهُم من جهة، يتوفرون كاليونان على مخزون ملحمي قل نظيره عند باقي الشعوب المسلمة، والملاحظ من جهة أخرى، أن أعمالهم الملحمية تختلف عما نجده عند اليونان، فهي تبقى بعيدة عن “تاريخ الآلهة والأبطال العمالقة” وتتمحور أساسا حول “ملحمة الملوك وأعوانهم” ويجب تبعا لذلك اعتبارها على أنها “تاريخ”، بالمفهوم الذي يعطيه العروي لهذا المصطلح. صحيح أنها تشمل “أبطالا عمالقة” (“پهلوانان”) يُعد “رُستم” أكبرهم وأهمهم، ولكنهم يبقون دائما ينشطون في فلك الملوك، مجرد “أعوان” لهم.
وبناء على ما سبق يصبح من الطبيعي أن يقرأ العروي “ألف ليلة وليلة” (“مفهوم العقل”) على أنهما وليد شرعي للعقلية الإسلامية وأن يحث القارئ ضمنيا على التفكير بأن كل الدراسات التي تراكمت منذ القرن التاسع عشر وعلى مر أجيال من المتخصصين المحنكين مستشرقين وعرب ‒والتي لا هدف منها سوى التنقيب عن الأصول الهندية-الفارسية للمجموعة وكل الشهادات التي وردت عند الكتاب العرب القدامى أنفسهم منذ القرن العاشر والتي تسير في الاتجاه نفسه دون ذكر مختلف الروافد التي انصهرت فيها خلال كل المراحل التي مرت بها وهي تنتقل من الهند إلى مصر مرورا ببلاد فارس والعراق والشام‒ تبقى في النهاية محض هراء لا طائل تحته (سبق ونشرنا مقالا مكرسا لهذه النقطة تحت عنوان “عبد الله العروي قارئا ل̒ألف ليلة وليلة̒”).