شهد المغرب منذ 1999، تاريخ اعتلاء محمد السادس العرش، تحولات عميقة شملت العديد من المجالات المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وجاءت هذه التحولات في سياقات ديموغرافية وبيئية وسياسية دولية شملت المغرب والبلدان المجاورة له، ولعل أبرزها، التحولات الديموغرافية التي ظلت شبه مستقرة في المغرب حتى نهاية القرن العشرين، لتشهد انفجارا كبيرا غير مسبوق ما بين 1900 و2014، وصل ما يقارب 34 مليون نسمة.
وتعتبر ظاهرة التحضر من الظواهر المثيرة للانتباه في قلب هذه التحولات، بمعدل 62 بالمائة مقابل 55.1 بالمائة سنة 2004، رغم صغر حجم النسبة الإجمالية للمساحة الوطنية التي لا تتجاوز فيها المدن المغربية 2 بالمائة، وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول مظاهر التفاوت واللامساواة الاجتماعية وشيوع الفقر والانحراف والجريمة والبطالة والتهميش.
وإذا كان المغاربة يترقبون أن تبلغ ساكنتهم الحضرية 75 بالمائة في أفق 2025، فإن جزءا كبيرا من الخصوصية المغربية التاريخية والجغرافية والبيئية والثقافية سيعرف تغيرا جذريا يجب الاستعداد له على أكثر من صعيد، خاصة مع ما تعانيه المدن من اكتظاظ شديد وإمكانيات هزيلة للحصول على البنيات الأساسية من طرق ومواصلات وخدمات، وصرف صحي، ومدارس عمومية، ورعاية صحية، وفضاءات خضراء، ودور الشباب وملاعب القرب.
وعلى الرغم من الحصيلة الجد متواصعة للسياسات الحكومية المتعاقبة، والأوضاع المزرية التي تعيشها المدن المغربية، ظلت العديد من القطاعات المسؤولة عن تدبيرها وتسييرها من دون مراقبة أو محاسبة، ومن دون تقييم موضوعي لسياسة المدينة ببلادنا، يراعي ما ينتظرنا من تحديات متصلة أساسا بالايكولوجيا والبطالة والهجرة والماء الصالح للشرب والسكن الجيد..
ولعل ما نطالب به اليوم هو أطلاق حوار وطني حول مستقبل المدن والفضاءات الحضرية، وحول المدن في ما بينها، رغم ما تغنت به الحكومات السابقة من شعارات التعاون والشراكة والتقارب، كشعارات لتحقيق التنمية الحضرية وتذويب الحدود، وفتح قنوات التواصل بين المدن وسكانها ومؤسسات بنياتها.
وإذا كانت المدن المغربية تواجه اليوم تحديات عميقة، ديمغرافية، وسوسيو اقتصادية، أثرت على حياة الأفراد والجماعات بسبب الهجرة، وبسبب ارتفاع نسبة البطالة والفقر والهشاشة، والاستبعاد الاحتماعي، وتدهور الوضع البيئي ونقص في البنيات التحتية والتجهيزات العمومية، فلأن التعاطي مع مشاكلها ظل خاضعا لرهانات ومقاربات متخلفة عن رهانات التنمية الوطنية المستدامة، وبعيدة عن التدبير الحضري المطلوب، وأدوات تنفيذه.
إن سياسة المدينة، كسياسة عمومية “بين وزارية” تهدف إلى خلق مدن شاملة، دامجة، منتجة، متضامنة ومستدامة في إطار مخطط وطني متعدد الشراكات (كما ورد في ندوة الرباط سنة 2014)، ظلت تراوح مكانها، ولم تستطع وقف وضعية الفوضى واستغلال الملك العام والترامي على المعالم التاريخية، وتشويه العمران الحضري، وهو ما يضرب في العمق نهضة المدن المغربية وتنمية رأسمالها المادي واللامادي، ويعطل دورها الحضاري والثقافي في بناء مغرب المستقبل.
ومن البديهي أن نعتبر اليوم ما يحدث في المدن من استبعاد اجتماعي، ومن انتشار السكن العشوائي والسكن غير اللائق، وسوء توزيع الخدمات بين الناس بشكل متساو، وتواجد أحياء عمرانية غير متحكم فيها نتيجة المضاربات العقارية، قضية وطنية واجتماعية بامتياز، تفرض ما تفرضه من تدخل سريع لإنقاذ الوضع المتردي للمدن المغربية قبل فوات الأوان، خاصة أن الزحف الحضري ليس سيرورة معزولة عن غيرها من الأوضاع الاجتماعية المرتبط بالهشاشة والفقر والتفاوتات الاجتماعية ، في غياب مثل يا علمية، مجدية مرتبطة بأنماط التغير الأساسية في المجالين السياسي والاجتماعي والثقافي والايكولوحيا.
إن ما تشهده بلادنا اليوم من حركات اجتماعية، مرتبط أشد ارتباط بالمعنى الحقيقي للمدينة كمكان وكتحولات تفرزها دينامية التغيير الاجتماعي في الأحياء وفي ملامحها المعمارية، كما تغذيها الصراعات والنزاعات بين مختلف الأفراد والجماعات في المجتمع، في غياب سياسة عمومية شمولية، رامية إلى مكافحة كل أشكال الإقصاء والتهميش. وهذا لن يزيد المدن المغربية إلا تدهورا وتخلفا وتقهقرا، وهو ما يفرض حكامة جيدة، وتدبيرا عقلانيا وتفاعليا للشأن الحضري، من أجل مدينة للعيش المشترك وإنتاج قيم المواطنة.
ولأن المدن تعتبر من الصنف السوسيوترابي الوحيد الذي يقوم على التنوع والاختلاط والتعقد، فهذا يستدعي فتح قنوات حوار جدي ومسؤول حول المدينة المغربية والآثار الاجتماعية التي عجزت السياسات العمومية عن إدراكها، وتقديم سياسات جديدة متعلقة بتنظيم الأسرة، والتعليم والتكوين..والمجال.
إن المدينة المغربية، ونظرا للتحول المتسارع والمفارق الذي يخترقها، في حاجة إلى التعاطي معها كفضاء حضري للتعايش ونبذ كل أشكال العنف والإقصاء، والقضاء على عوامل الهشاشة عبر تقوية الرابط الاجتماعي، من خلال ضمان كل عناصر الاستدامة سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، بالإضافة إلى البعد البيئي.
وانطلاقا مما سبق، يمكن القول إن المدينة لم تعد عمرانا فقط، بل أضحت أسلوب عيش ونمط حياة وفضاء جذب للنازحين، وعنصر استقطاب الرأسمال الوطني والأجنبي..والنخب العمالية المهاجرة والعالمة والمثقفة، وبالتالي فهي مؤهلة اليوم لقيادة حوار حضري- حضري بين سكانها ومؤسساتها وكل الفاعلين والنشطاء العاملين في فضاءاتها، والانفتاح على بعضها البعض، من خلال أصالتها وحداثتها وموروثها الثقافي وأنظمتها القانونية والسياسية والأخلاقية، ومن خلال قيمها المادية والعاطفية والرمزية.