‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د إياد البرغوثي: دروس “الطوفان” وارتداداته(2) السياسي يربك الثقافي

أسوأ ما في الكتابة عن “دروس” تجربة ما، أن تعتبر نفسك “استاذا” والآخرين تلاميذ. حالة “الاستاذية” هذه، تُصيب عادة المنظرين (الايديولوجيين) من كافة الأنواع والاتجاهات، يتقمص فيها الواحد منهم شخصية رسول ما عليه إلا البلاغ، ويضع نفسه في خانة المرسل فقط أمام تلاميذ يستقبلون، فتنتفي حالة التفاعل بين الجانبين، وهي الحالة المطلوبة اكثر في جو القلق الذي نعيشه.

لكن طبيعة الحوار والتفاعل المطلوب من المثقفين والنخب الفلسطينية اجمالا، اكثر تعقيدا من ذلك المطلوب عند أي شعب آخر. ففي حين يمتلك الآخرون هدفا واضحا متفق عليه، والحوار يجري حول الطرق والوسائل الموصلة الى ذلك الهدف، وهنا من الطبيعي أن يكون حوارا ايديولوجيا وحزبيا وسياساتيا، فإنه في الحالة الفلسطينية “المتفردة”، حيث الاختلاف الأساسي حوله، فإن الحوار المطلوب لن يكون مفيدا إلا اذا كان على قاعدة “توحيد” الهدف، والاتفاق عليه. انه حوار حول “البديهيات” و”المسلمات” التي لم تعد كذلك في الحالة الفلسطينية. المشكلة هنا ان ارتباك الهدف الذي اصاب السياسيين قد انتقل الى المثقفين للأسف، مع انه يفترض في فلسطين الثقافة ان تزداد تماسكا وصلابة و وضوحا ويقينا كلما ازدادت “المطبات” السياسية و الغموض السياسي.

في هذه الحالة، فإن المطلوب من المتحاورين الفلسطينيين، مثقفين ونخب أخرى، إن هم أرادوا حوارا مثمرا أن يتجاوزوا الايديولوجيا والاحزاب والسياسات، فهذا ليس وقته الآن لأنه يتعلق بطرق إنجاز هدف لسنا متفقين عليه اصلا وليس محددا. الحوار الحقيقي و الجدي بين الفلسطينين هو ذلك المتعلق بالهدف و تحديده و الاتفاق عليه.

يجب ان نتفق على ماذا نريد و من ثم نبحث في كيفية تحقيقه. قد يبدو من الغريب ان نطرح بعد مئة عام من القضية ماذا نريد، لكن هذا هو الواقع، لان السياسيين (وقد يكون معهم حق) والمثقفين ( وبالتأكيد ليس معهم اي حق) ربطوا ماذا نريد بماذا نستطيع، و حيث ان ما نستطيع هو موضوع متغير بات ماذا نريد متغير أيضا، فدخلنا في حالة من التيه يفترض أن نعمل على أن لا تستمر طويلا لأنها تعيق أي “اقلاع” نحو ما سيأتي.

هذا الوضع هو الذي جعل محاولات الوحدة الوطنية الفلسطينية العديدة التي اجراها الفلسطينيون وإن كان موضوعنا لا يتعلق بذلك – لم تصل الى نتائج، وبرأينا أنها لن تصل مهما خلصت النوايا وعلت نبرة النقاش، وتغيرت شخصيات الوفود، وأمكنة اللقاءات والراعين للمحادثات، ما دام الهدف الفلسطيني معوّما وغير واضح. كل المحاولات التي جرت تناولت نوع الحافلة التي ستقلنا دون أن نتفق على تحديد وجهتنا، فكان الحديث عن تقنيات الحكم وآلياته، وهذا على اهميته في الظروف الطبيعية، فإنه ليس ذا صلة في الحالة الفلسطينية الراهنة.

المشهد الثقافي الفلسطيني.. مزيد من الارباك

الغريب في المشهد الثقافي الفلسطيني، أنه بعد كل هذا الوضوح في ما يتعلق بفلسطين التي لم تكن يوما واضحة وحقيقية مثلما هي عليه اليوم، وكذلك اسرائيل والغرب والدولة العربية والنظام العالمي والأصدقاء والأعداء، ازداد المثقف الفلسطيني ارتباكا وترددا، ذلك بتقديرنا بسبب هول الألم الذي سببته الجرائم الاسرائيلية، وكذلك بسبب ضبابية الهدف وربما غيابه.

لا اناقش هنا صحة مواقف المثقف الفلسطيني أو عدمها، بل “ضياعه” وفقدانه للبوصلة بغيابها حينا وبتعددها احيان، هذا لا ينطبق على الجميع بالطبع بل على شريحة يبدو أنها ليست بسيطة. فعند محاولتك إيجاد تفسير معين لمواقفه تتوه معه، تجده ضد الاسلاميين في غزة لأسباب ايديولوجية، لكنه ليس ضدهم في سوريا. وتجده ضد العلمانيين في سوريا بسبب “الاستبداد” لكن استبداد الآخرين لا يعنيه، إن لم يكن معجبا به في بعض الحالات. موقفه تقرره الحالة، ولولا الوقوع في شيء من التجني لقلت ان موقفه هو حال موقف الغرب تماما، الاختلاف بينهما ينحصر في أننا قادرين على فهم موقف الغرب، بينما لسنا قادرين على فهم موقفه.

واذا ما ذهبت للنظر في موقفه من الحرب في غزة، تجده ناقدا عنيفا لل”سنوار” لأنه بادر بالهجوم وذهب بغزة الى المجهول”، وناقدا كبيرا لحزب الله الذي كان رد فعله “ليس بمستوى الحدث”، وكذلك لإيران لأنها اختارت أن يكون ردها “مسرحيا” ولم تذهب مباشرة الى الحرب الشاملة. هو ضد أحد لأنه حارب، وضد الآخر لأنه لم يحارب بالقدر المطلوب، وضد الثالث حارب أم لم يحارب. (مرة أخرى لا اناقش هنا الموقف بل تعدده وتردده ).

وعندما ننظر الى موقف هؤلاء من المتضامنين مع فلسطين أو من أصدقاء اسرائيل، تجده يشكك في أي تضامن فهو إما ليس “حقيقيا” أو “شكليا” أو “توريطا”، لكنه عند نقاش أي موقف مهما كان واضحا لأصدقاء اسرائيل، تجده “اكاديميا” يناقش “بعقلانية” مواقف الادارة الفلانية بسبب تخوفها من رئيس مرتقب،أو منافس عالمي “يدفعها” لاتخاذ ذلك الموقف. بل وأبعد من ذلك، فهو عندما يناقش الجرائم الاسرائيلية “يدينها” لكنه في نهاية الأمر يبررها، إذ “ماذا تتوقع من دولة تم الهجوم عليها بهذا الشكل، وارتُكب بحقها كذا وكذا”.

هذا النوع من المثقفين، يصر على تشويه النموذج والرموز و”المعتقدات” دون التفكير ولو لحظة في ما قد يترتب على ذلك، ويجهد النفس في افشال “مشاريع” الآخرين أو مبادراتهم “الثقافية” دون أن يفكر في أية مبادرات أو مقترحات للمضي قدما.

وعند اضطرار ذلك المثقف للحديث عن أي أمر يتعلق بمستقبل الصراع في المنطقة، يتحول مباشرة من “مفكر” (نقّاق) الى محلل سياسي “محايد” يزن الأمور “بموضوعية”، فيتحدث عن الاحتمالات والسيناريوهات واذا ما نجح فلان أو رسب فلان، دون التفكير ولو للحظة في عوامل ذاتية ينبغي تفعيلها.

واذا ما بادر أحد من هؤلاء -وهو ما يحدث نادرا – لوضع مقترحات يتم فيها تناول ما على الفلسطينيين عمله للخروج من المشكلة، نجدها تتلخص بعد تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما جرى لهم بسبب “سوء” تقديراتهم وخياراتهم في أمرين، “النصح” بالاستسلام، وفك الارتباط بالاصدقاء واللحاق بالاعداء. ما يُستشف من تلك المقترحات يعطي انطباعا أن هؤلاء يعتقدون اننا في “معرض” لاختيار الأصدقاء والأعداء، وما علينا الا حسن الاختيار.

الاحتلال وخيارات المثقف

المثقف معرفة وإحساس بالمسؤولية، وهو عندما يكون تحت الاحتلال كالمثقف الفلسطيني خياراته محدودة، وإمكانية المناورة عنده ضيقة، وعليه أن يذهب مباشرة ليجسد وجدان شعبه وآماله وأحلامه، وكذلك مخاوفه وآلامه. لقد فتح “الطوفان” وارتداداته آفاقا واسعة أمام صراع فكري كبير، والمثقف شاء أم أبى جزء اساسي في هذا الصراع، وعليه أن يكون واضحا في اصطفافه الى جانب شعبه وتطلعاته.

بالتأكيد على المثقف أن يؤمن بحرية الرأي، لكن في نفس الوقت عليه أن يعرف، خاصة اثناء احتدام الصراع، أن المهم ليس فقط ما يقال بل ايضا كيف يقال ومتى يقال ولمن يقال. عليه ان يكون رافعة لجهود شعبه، مطْمئنا “للتاريخ” ومطَمئنا لشعبه حتى وإن كانت اللحظة قاتمة، فالمثقف لا يتوقف عند اللحظة لأنه هو الذي يدرك اكثر من غيره أن التاريخ مسار وسيرورة، وأنه لا ينبغي أن يكون محبِطا ولا حتى محايدا في ذلك.

كثير من المثقفين الفلسطينيين يقعون ضحية ضبابية الهدف، وعظمة التضحيات، وبدل أن تكون فلسطين بوصلتهم على المستوى الاستراتيجي والخيارات الكبرى، ينغمسون في اللحظة الحالكة وسبل الخروج منها فيزيدون المشهد ارباكا. واذا كان الهدف حيال فلسطين غير قابل للتوحيد الآن بسبب التفوق “غير الشرعي” للسياسة على الثقافة، فإن الوقوف أمام الصهيونية ثقافيا والعمل على تفكيكها أمام رأي عام بات اكثر استعدادا لذلك، هو ما يجب أن يتحد عليه كل المثقفين الفلسطينيين.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button