في هذه اللحظة الديمقراطية التي تتاح لنا بفضل جرأتنا كي نخوض في موضوع يبدو لكثير منا مجرد ترف في العلاقة مع انعاش مادة الحنين واستفزاز الآلام يطلب منا عادة اعتباره وسيلة لعلاج نفسي عبر ثنائية التذكر والنسيان ، الوفاء او الخيانة ، لولا الضمير المطلوب منا اخراجه من تقيته ، ليصير ضميرا حيا متصلا بالفاعل /الفاعلين قبل الفعل / السلوك من خلال الوقائع في علاقة اتصال او انفصال مع المواقع ، فلماذا اقترحنا التداول في الحاجة الى تنطيق مواقع ضمير الذاكرة ؟
إن لفظة تنطيق تعني من جهة تكليم أو إجبار على التعبير تلقائيا ذون حاجة الى كثير من التحقيق ، ومن جهة تعني تعني كمصطلح توطين او تحديد الموقع .
واسمحوا لي ان أستعير من روايةِ، العبقرية 1984، لصاحبها جُورْجْ أُورْ وِيلْ الحقيقةَ التاليةَ ؛ “مَنْ يتحكمُ في الماضي، سيتحكمُ في المستقبلِ… ومَنْ يتحكمُ في الحاضرِ، يتحكمُ في في الماضي”…
إن “التحكمَ في الماضي، خُطْوَةٌ مؤثرةُ في الإمساكِ بوثائقِ اللحظةِ الراهنةِ”… لِذا يسعى- دوماً – أعداءُ الحقيقةِ، إلى مَحْوِ معالم الفظائع والانتهاكات بهدم المواقع حتى لا تكون شاهدا على الوقائع ، لذلك فقتل الضمير أو موته إرادويا ينسجم ، تواطؤا مع إستراتيجية التضليلِ كجزء من القمع الممنهج.
ومثال سجن قارا بمكناس والمعتقلات السرية على امتداد خريطة الوطن من دار بريشة الى شنقيط عبر الشريط الحدودي الريفي والمغرب الشرقي الى تين ضوف ومن البوغاز إلى الكويرة عبر المغرب عرضانيا ، مواقع ووقائع يحاول التاريخ الرسمي استغفال الضمير الانساني بشن الحروب التضليلية والقمعية على السواء ووفق مخططات وبتواطؤ معمم، تكتوي بنارها الشعوب و المدنيون الأبرياء، كلما تقدم حراك اجتماعي أو معرفي ، تعبيرا عن طموح مشروع عن الحق في الحياة والعيش بكرامة و في العدالة الاجتماعية، بكل ما تحمله من آمال للقطع مع الظلم والفساد والانتهاك للحرية والكرامة الإنسانية .
بالعودة إلى التاريخ الوطني ، يتبين بأن الذول المتعاقبة بنت مجدها على أنقاض دول أحرى و قد كانت السيادة لمظالم الحروب الدينية تستعمل التكفير والتخوين ، ولعل الإبادة الجماعية التي تعرضت لها بعض القبائل المغربية تكاد تماثل فظاعات الحروب الصليبية على الخصوص و محاكم التفتيش، و محارق جماعية، فالتهجير القسري لمن نجوا من المجازر ( نموذج تامسنا وبوغرواطة) بنفس حجم فظاعات حملات ترحيل الأفارقة كعبيد إلى أمريكا و المآسي الفظيعة الناتجة عن الحروب الاستعمارية والحروب الكونية، الأولى والثانية والتي خلفت جراحا لا زالت بعض مناطق المغرب تعاني من الوصم والتهميش بسببها ، ونظرا لضعف إرادة التنطيق لم نستطع بلوغ مستوى الأسطرة التي شابت ظاهرة الأبارتايد منتجة نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا وكذا الجراح التي خلفتها الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، خاصة في أمريكا الجنوبية… وإن الغبن السياسي الذي تعاني الذاكرة الجماعية الوطنية من جرائه لا زال يكرس نوع من الإمعان من الإستئصال والإبادة في حق الإنسانية ، مما يِكد مسيس الحاجة إلى انبعاث ضمير الذاكرة ، ضمير جماعي يبلور إرادة قوية يستنطق ويسائل المواقع والوقائع كصنائع للسلطوية والقمع والاستبداد و كل طبائع الحكم المطلق، بما تمثله من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان خرقا القانون الدولي الانساني و كذا كافة المبادئ الانسانية الواردة في الشرائع الدينية؛ والتنطيق بالمفهوم الذي نقصده خلفيته الجوهرية هو تفادي التكرار وخلق أليات التدبير السلمي والديمقراطي المؤطر للصراع وقنوات الحوار المفتوح الهادف إلى صون كرامة الانسان بعيدا عن النزعات و الاندفاعات الطائفية والمذهبية والدينية والهوياتية .
في هذا السياق، تأتي الحاجة إلى انبعاث ضمير الذاكرة ، بما يعنيه من صحوة ويقظة الضمير الانساني لاستفادة الشعوب من ذاكرة الجراح. قد يقول قائل بأن الاحتكام إلى العقل قد يغنينا عن السقوط في الذاتية التي تتسبب في التشويش على موضوعية مبادرتنا واشتغالنا المفترض فيه تمثل العلمية بدل الرومانسية والوجدانية ، نقول بأنه صحيح أنه مطلوب بذل مجهود من أجل الإندفاع بقوة نحو امتلاك الأدوات الكفيلة بالتعرف على حقيقة ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان ، لكن أعتقد أن العقل لن يحفز على إثارة المسؤوليات كما يمكن للضمير أن يفعل ، فالضمير وهو يتفاعل مع هذه الدينامية المستجدة والمعالجة للذاكرات، يتخذ طابع الشمولية والعمق والقوة في العلاقة مع مطلب إعمال وإقرار ضمانات عدم التكرار، والضمير يملك كامل الجرأة لانتقاد خطاب التاريخ الرسمي من جهة، واستعادة آثار القمع والتهميش ومحاكمتها ، بغض النظر عن دور الضمير في حفظ الذاكرة من النسيان مادام العقل قد يجبر الضحايا على الصفح أو التصالح . فقد سبق لنيلسون مانديلا أن قال قولته المأثورة ” قد نسامح ولكن لن ننسى ” لعل هذا تجسيد حي للضمير الجمعي و كذا الضمير الفردي.
لقد عشنا جميعا لحظات استعادة للذاكرات،وطنيا في إطار تجربة هيأة الانصاف والمصالحة ، ودوليا التأمت مواقع الضمير والذاكرة في إطار تحالف دولي بهدف تثمين ذاكرات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان ونفض غبار النسيان عن صفحات من أشكال المقاومة للظلم والقهر والاعتداءات على كرامة الإنسان. كما تبلورت مسارات “العدالة الانتقالية” كخيارات للمصالحة والحقيقة المنتجة للمستقبل والإنصاف وبالتالي الانتقال للعدالة والديمقراطية واحترام حقوق الانسان.
وهنا وجب التذكير بأن التجربة المغربية في العدالة الانتقالية، كما تمثلتها المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكذا “هيأة الإنصاف والمصالحة” (2004-2005) ، تمكنت من كسر جدار الصمت والتعبير والبوح بالعذابات، زمن سنوات الرصاص بالمغرب ، ولو بصفة حصرية عن الفترة مابين سنة 1956 و 1999. كما أوصت هذه الهيأة في تقريرها الختامي، على تحويل المعتقلات السرية السابقة إلى مواقع الضمير والذاكرة الجماعية. وكتعليق على هذه التجربة يمكن القول بأن العقل السياسي هو الذي أطر عملية التذكر والمعالجة ، من هنا وجب الإصرار والإلحاح على أهمية اعتماد الضمير الذي يتحدى الحدود على عكس العقل الذي يتوخى الحظوظ المقيدة بإرادة التوافق والتسوية درءا للفتنة والضعينة المزعومتين ،في حين لا يسعى الضمير الذي نتبناه بديلا للعقل الجاف المجرد من كل مقاربة إنسانية سوى الى معالجة الوقائع والمواقع من خلال تفعيل مطلب إعادة نقد تاريخ العلاقة مع الجوار والاستعمار أي
قراءة مسار عدالة الانتقال الديموقراطي في العلاقة مع الجوار والاستعمار، بما يعنيه عدم التراخي في استكمال مطلب التحرر رالتحرير ، وعدم التسامح تجاه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي مورست ضد المواطنين المغاربة وعلي الخصوص تجاه أعضاء المقاومة المسلحة في المعتقلات والسجون ، دون ان نتناسى التواطؤ الذي طال عملية مكنسة إيكوفيون ضد من تبقى من جيش التحرير المغربي .
فليس يكفينا الاعتذار كمطلب بل لا بد من اقترانه برد الاعتبار لضحايا المجازر الاستعمارية التي طالت سكان الجبال من الريف إلى الأطلس الصغير ، عبر الأطلسين الكبير والمتوسط والصحرائين الشرقية والغربية ، وعلى الخصوص بمناطق عين شعير وفكيك و آيت عبد الله وادا وسملال وويجان ومناطق أخري مغمورة كمثال فقط ، والتي لا يذكرها المؤرخون إلا في أطروحاتهم « الأكاديمية » .
وعوض أن تهتم دينامية « المصالحة » بجبر جميع المناطق التي عانت من الانتهاكات الجسيمة ، تفتقت عبقرية مهندسيها فاختصروا الاهتمام ببعض القصبات التي كانت معتقلات سرية دون نزلائها وسكان المناطق التي تقع في نفوذها .
وفي انتظار تصحيح المساطر والمناهج ، ارتأت ثلة من الحقوقيين والمختصين المبادرة إلى تأسيس إطار غير حكومي يعنى بحفظ ذاكرة للمواقع وكذا الوقائع ، أطلقوا عليه إسم « منتدى ضمير الذاكرة » ، وتوافقت الإرادات على تشكيل إدارة جماعية متنوعة ومتعددة ، بعد مصادقة الجميع على الأرضية المتضمنة للأهداف العامة ويدخل ضمنها التنطيق .
ذلك التنطيق الذي نروم من خلاله إعمال منهاج التطهير من كل الكتابة المغرضة بإعادة قراءة مسار عدالة الانتقال الديموقراطي في العلاقة مع الجوار والاستعمار ، فالدين تجاههما تاريخي ، ولا يعقل التراخي في استكمال مطلب التحرر رالتحرير ، كما لا ينبغي التسامح تجاه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي مورست ضد المواطنين المغاربة وعلى الخصوص تجاه أعضاء المقاومة المسلحة في المعتقلات والسجون ، دون ان نتناسى التواطؤ الذي طال عملية / مكنسة إيكوفيون ضد من تبقى من جيش التحرير المغربي .
فليس يكفينا الاعتذار كمطلب بل لا بد من اقترانه برد الاعتبار لضحايا المجازر الاستعمارية التي طالت سكان الجبال من الريف إلى الأطلس الصغير ، عبر الأطلسين الكبير والمتوسط والصحراء ين الشرقية والغربية ، وعلى الخصوص بمناطق عين شعير وفكيك و آيت عبد الله وادا وسملال وويجان ومناطق أخرى مغمورة كمثال فقط ، والتي لا يذكرها المؤرخون إلا في أطروحاتهم « الأكاديمية » .
وعوض أن تهتم دينامية « المصالحة » بجبر جميع المناطق التي عانت من الانتهاكات الجسيمة ، تفتقت عبقرية مهندسيها فاختصروا الاهتمام ببعض القصبات التي كانت معتقلات سرية دون نزلائها وسكان المناطق التي تقع في نفوذها .
وفي انتظار تصحيح المساطر والمناهج ،تجدر الإشارة إلى أن ثلة ارتأت من زملائكم الحقوقيين والمختصين بادروا إلى تأسيس إطار غير حكومي يعنى بحفظ ذاكرة للمواقع وكذا الوقائع ، أطلقوا عليه إسم « منتدى ضمير الذاكرة » ، وتوافقت الإرادات على تشكيل إدارة جماعية متنوعة ومتعددة ، بعد مصادقة الجميع على الأرضية المتضمنة للأهداف .
وفيما يخص التنطيق بالمعنى المجالي او الخرائطي فإن المطلوب الاشتغال بمفهوم الطرح او الخصم soustraction أي حذف المناطق الناجية من الفظائع والانتهاكات الجسيمة من الخريطة المغربية ليتبين بأن الوطن كله موقع عظيم للضمير الشيء الذي يوحي بأن جبر الضرر يقتضي ان يطال البلاد جميعها ليس فقط في سياق العدالة المجالية ولكن أساسا من زاوية العدالة الاجتماعية بمعناها الكوني الشامل في منحى الاعتراف وفي اتجاه الإنصاف .