![](https://www.kechpresse.com/wp-content/uploads/2025/02/م-بنبركة.jpg)
…في حوالي 1962-1963 توفرت على صندوق صغير أضع فيه الأوراق الشخصية وأحتفظ فيه بالرسائل الهامة والوثائق التي أخشى عليها من الضياع أو التي قد أحتاج إليها أحيانا، خاصة الوثائق الشخصية كان من أهم الرسائل التي وصلتني من بعض الإخوة في الحركة الوطنية /المعارضة، وكنت أدسها في الصندوق بعد قراءتها رسائل الأخ الشهيد المهدي بن بركة – توفي عام 1965- والتي بعثها من بلاد عديدة خاصة من جنيڤ حيث كان يقيم عادة. لكن في تاريخ ما غالبا نفس السنة التي استشهد فيها الراحل المهدي، لم أعثر على الصندوق، وتبين أن الذين سرقوه دخلوا من نافذة المنزل عبر الحديقة الواسعة في المنزل الذي كنت أسكنه في حي حيدرة بمدينة الجزائر، وقد توفر –المنزل- على بستان صغير يمتلئ بالأعشاب ذات الطبيعة الدوائية، إذ كان يملكه طبيب فرنسي مهتم بالعلاج بالأعشاب قبل أن يغادره مع استقلال الجزائر في 1962، وقد استغل (اللصوص) منفذ الحديقة للمرور إلى المنزل بعد كسر إحدى نوافذه واستولوا على الوثائق.
![](https://www.kechpresse.com/wp-content/uploads/2025/02/بنبركة-يقرا.jpg)
وعلاقتي بالأخ المهدي تطورت من خلاف في الرأي لا يقطع للود قضية إلى علاقة وثيقة تجاوزت العام إلى الخاص، وارتبطنا بصداقة منذ الخمسينيات من القرن الماضي. وقد توثقت هذه العلاقة عندما زرنا معا جمهورية الصين الشعبية في 1959 بدعوة من القيادة الصينية احتفالا بالذكرى العاشرة لنجاح الثورة الصينية في فاتح أكتوبر 1949 وقضينا عشرين يوما معا.
![](https://www.kechpresse.com/wp-content/uploads/2025/02/بنبركة-تشي-كيفارا.jpg)
وهي للصدفة التاريخية فـ -1949 ميلادية- هي السنة التي تعرفت فيها على الأخ المهدي، إذ بعد رجوع الأخ عبد الله إبراهيم في نفس السنة من فرنسا بعد دراساته بها أسس اللجنة الثقافية، وكان يدعو شخصيات وازنة لإلقاء محاضرات وعروض سياسية، وكان من أهم المدعوين الأخ المهدي بنبركة، وقد ألقى عدة عروض مع مناقشات مع الحاضرين وذلك بمنزل والد الأخ عبد الله إبراهيم بدرب الحمام بالمواسين/مراكش في صالة علوية، وكنا نسأل الراحل المهدي بنبركة بعد العرض ليفسر لنا ما غمُض عنا في العرض أو المحاضرة.
بعد الاستقلال -1956- تطورت العلاقة مع الأخ المهدي الذي كان شعلة من النشاط على الصعيد الوطني والزعيم الحركي الأبرز لحزب الاستقلال، ثم للجامعات المتحدة لحزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية المؤسس في 1959.
![](https://www.kechpresse.com/wp-content/uploads/2025/02/بنبركة-مع-محمد-الخامس.webp)
كنت في جزء من سنة 1962 مقيما بمدريد، وقد غادرتها فور استقلال الجزائر إليها، والأخ المهدي آنئذ مقيما بجنيڤ مع انتقالات إلى مختلف أنحاء العالم، وبعث لي عدة رسائل هي في الواقع تقارير مسهبة عن الوضع العالمي، خاصة أوضاع افريقيا التي كان الصراع حولها شرسا ضد الاستعمار وبقاياه، والطابور الخامس والأنظمة العنصرية، والأخ المهدي من خلال رئاسته لمنظمة الشعوب الافريقية ومؤتمر القارات الثلاثة الذي كان يهيء له. كان أحد المختصين في الشأن الإفريقي وكتب لي عن المقاومة التي يقودها -الرئيس- أحمد الشيخ ثوري –سيكوثورى- في غينيا و -الرئيس- نكروما في غانا، والأحداث الدولية المرتبطة بالنضالات الإفريقية وهذه الرسائل /التقارير غطت قضايا دولية هامة، فضلا أنها مسهبة وتمنح نظرة واسعة وهامة للشأن الدولي آنئذ، علما أن الشهيد بنبركة كان يزور الجزائر وقد اشتغلنا معا مع باقي الإخوة في تأسيس مدرسة للطلبة والطالبات المغاربة في مدينة لبليدة قرب الجزائر العاصمة والتي درس فيها مجموعة من الطلاب والطالبات المغاربة إلى أن أغلقت بعد انقلاب 1965 الذي قاده الرئيس الهواري بومدين ضد الرئيس أحمد بنبلة.
![](https://www.kechpresse.com/wp-content/uploads/2025/02/بنبركطة-يخطب.jpg)
وقد زرت الأخ المهدي بنبركة مرات في منزله بجنيڤ مابين 1959–1964، والذي يقع في وسط غابة رائعة الجمال الطبيعي وخضرة وجداول المياه، ونذهب معا إلى السوق القريب لشراء المواد الغذائية، وعادة نشتري الخضر والسمك ونطبخهما معا في المطبخ الصغير بالمنزل، ورغم أنني طباخ إذ تعلمت الطبخ من والدتي كما أسست مطعم طاجين بباريس، إلا أن الأخ المهدي كان هو الآخر طباخا ماهرا، وكان يقترح تغيير نسمات الطعام بإضفاء بهارات لا تكون عادة في نفس الأكلة أو خضر ليست من مكوناتها، وفي الليل نخرج إلى أحياء مدينة جنيڤ وإلى مسارحها، وما أكثرها قصد الاستمتاع بالعروض المسرحية والموسيقية، وأحيانا نتجول في زوايا وأزقة المدينة التي تعج بالفرق الموسيقية والمطاعم الصغيرة، والأخ المهدي فضلا عن إعجابه بأغاني عبد الوهاب/أم كلثوم والأغاني المغربية، كان محبا لمقطوعات بيتهوڤن وموزار وأيضا لموسيقى الجاز الإفريقية التي يعزفها رجال كبار في السن، إذ كنا نتعشى في بعض المطاعم الصغيرة التي تتوفر على فرق ثلاثية لموسيقى الجاز وتقدم أكلة اسمها “فوندا” تتكون من اللحم أو الجبن وتوفرها هذه المطاعم، وهي الأكلة المفضلة للأخ المهدي في العشاء مع موسيقى الجاز.
أحيانا نعود للمنزل باكرا ، إذ كنت أقيم معه أثناء الزيارات في منزله، إذ كان يرفض قطعا أن أذهب إلى فندق أو مكان آخرا لكرمه الواسع والذي يعرفه الجميع، ومن أجمل الأماسي الطريفة التي نقضي بالمنزل، فضلا عن الحوارات السياسية والثقافية مجالسة ابنيه التوأمان -اللذان ازدادا بعد ابنه البشير- منصور وسعد وعمرهما لا يتعدى 5 أو ست سنوات، وقد تميز منصور بالهدوء والصمت والاستماع، بينما كان سعد بعكسه تماما إذ تمتع بخيال واسع ، ويروي لنا حكايات طويلة عن المغامرات والبحار والغابات والفروسية، وقد توفر على قدرة فريدة في المضي بالحكي من حديث إلى آخر، وكنا ندعوه إلى أن يروي لنا ماذا وقع “للبطل” فيبدأ في الحكي بسلاسة وبربط للأحداث الخيالية وبنفس طويل؛
![](https://www.kechpresse.com/wp-content/uploads/2025/02/مع-أبنائه.webp)
…. في 30 أكتوبر 1965 وأنا أستعد لمغادرة الجزائر توصلنا بالخبر المفجع اختطاف الأخ المهدي بن بركة بباريس من طرف عصابة “مجهولة” لم أك ومعي الأخوة نشك في أننا لن نرى الأخ المهدي بن بركة بعد هذا الاختطاف، فقد كان للشهيد خصوم وأعداء في كل مكان وكانوا يخشون شخصيته /الكاريزمية، وقدرته على التحرك وصيته الوطني/العالمي وشعبيته في وطنه، وكان باختصار شديد رجل استثنائي في كل شيء حياته ونضاله ومرحلته ووفاته.
رحم الله الفقيد والشهداء والمناضلين.