‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د مصطفى غَلمــــان: أبنية الرساميل الاجتماعية والثقافية في وسائل الإعلام الجديدة؟

” قد أنظر من عين الإبرة ولو ضيقا، علني أفهم حقيقة صورة العالم وخلفياتها وإن بشكل حذر وبطيء، لكنني أتردد في خرق قانون الرؤية، عندما أتهجر مفازات لا متقاربة، ومفجوعة بالزيف والجفاء”

كثيرا ما تتعالق أسئلة الراهن الفكري بمنظورات الرائين في أعمق سرديات القرن العشرين، ممن استشكلوا استلهامات الطفرة البشرية وتحولاتها في بنية الفلسفة الوجودية المتقابلة. وأبرز الأسئلة الحاضرة نوعيا واستشرافيا، زمنية العزلة في حولية غابرييل غارسيا ماركيز، والتي تستقصي بالحس الروائي الصاقع والدربة الواعية بتعرقات العالم وانقياداته، تلاوين السرعة وانكشافها المستديم في أتون ضجيج العالم وحتمياته.

كما لو أن البطل الإشكالي الآن، يلثغ بنفس عميق، آثار الحوافر في رمال الدهر، يقايض بها انزياحات الأفق المعتم، وتآويله المبطنة. نفسه التعالق الذي يقطع الشك باليقين، يكبح النور عن الاستمساك بالأضواء الخفيتة العامية.

إنه بطل غارسيا، الذي يصفه ب”متحف النسيان”، مقتعدا “أثر السيرورة في الأيام التي تطوى بسرعة، تنزلق من بين الأصابع كالرمل.. وأن اللحظات التي ظنها أبدية كانت في الواقع مجرد ومضات، تتلاشى قبل أن يدرك قيمتها”.

العالم الآن، وفق هذه الدفقة الأنيقة، يكتشف متأخرا، أنه يستعير وجوده الكوني، من قيمة لا تغسل مدارات الماضي، بما يكفي لاستيقاظ الحواس الخلفية البديلة عن العدم، فينزوي إلى ترميم فرص المادة المبتورة عن خلفياتها المجذوبة المجردة من فكرة القيم والعيش المشترك ومبدأ التسامح وسمو الإنسية.

وعلى حين غرة، يصير عالم التشييء والتصنع وتشويه الحقائق وتزوير الإرادات، وتغييب العقل، جزءا صميما في لبوسات هذه الشيوية المستبلدة، متحررة من كل ما يمت بصلة للإعلام ورسالته النبيلة، ومتحدرة بفعل القهر والبلادة، إلى أرذل الأخلاق وأغباها.

ولن يجد المفكر في التدليل بالعشرات من أنماط التقاليد الدخيلة على مجتمع الطفرة ذاك، حيث ترى بالعين المجردة، وبعشرات النماذج المنتشرة على طول وعرض مواقع التواصل الاجتماعي، كيف تكون الطوارئ المنذورة للتشويه الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والانحطاط القيمي، كابحة لأبسط العقود الثقافية والتربوية في زحمة تواري القياسات القدوية والاستشعارية، ومفاوزها المستجيبة لروح الضمير وتوابث المجتمع. 

وفي غمرة هذا التلخبط والفوضى المضطربة، تتلقف ماكينات التشييء والوطء الصدامي القميء، عشرات الرسائل والصور والعلامات، تحركها أيادي قذرة، لا تنفك تدعو إلى الانحراف والسقوط والتلون الشيطاني، غير عابئة بقيم الإنسانية والدين والأخلاق العامة. والناظر لتلكم الرسائل والصور والعلامات، سيصاب برهق نفسي وروحي قاس، يسحبه إلى محاولة استقصاء الموصوفات والعوادم بما يكلف نظام عالم “الكذب” خطيئات الجهل وطغيان المادة وانحراف الأخلاق وضعة المروءة.

ومع الزمن، وتحت إيقاع استمرار كل هذه الكارثيات، على اختلاف صورها وتداعياتها في الوجدان اليومي للحاضنات الإلكترونية السريعة، يصير النظر إليها كما لو أنها جزء من واقع لا يشكل صاديا ولا هالكا محتوما، فيكون العيش معها وبنكهاتها المعروضة، نبتا مفروضا في منشأ التمدد والارتفاع، فتصير بعد ذلك وضعا واقعيا ومستنيبا في سير الحياة وتعاودها وارتدادها وترددها.

وإذا انشغلنا بتراكم هذه الزوايا، في سوسيولوجيا الإعلام والتربية، من موقع كون السوسيولوجيا تفضح دائما خلفيات الانخداع الذي يتم تسويقه وتشجيع أدواته، كما التربية تعيد مسلكية الوظيفة المجتمعية إلى أخلاقياتها الثاوية، فإن “المجتمع (بأغلبه) يخدع نفسه على الدوام” بحسب قول مارسيل موس، يكشف أيضا عن مثالب الهيمنة المقنعة، فإن تكريس الأنماط الجديدة للسلوكيات المهيمنة في وسائل الإعلام الجديدة، هو إقبار مستبطن للتاريخ والثقافة واللغة كفضاءات (سلط رمزية)، مرتبطة بمحيطاتها الخارجية، التي تمدها بأنفاس الفعالية والأجرأة القيمية، وقوة الاستمرار والصمود التلقائي.

فما الذي تريده الأنساق الإعلامية الناشئة اليوم، في ظل اشتداد توحش “الرأسمال” الإقطاعي، وتخلف مسلمات الخطاب التربوي الإعلامي، وبروز معاول أيديولوجية مجردة من إرث ثقافي وظيفي وإنتاجي متجادل؟.

وكيف نفكك تلكم البراديجمات المحكومة بنزاعات فردانية ذات توجهات نرجسية مفضوحة، تناكف مناخات الاندماج والتعدد والاختلاف في مجتمع منقسم بطيء الفهم وقابل للانفجار في أية لحظة، ومحتكر في فضاءاته واختياراته وتشاركاته…؟ وهل تنحدر أبنية الرساميل الاجتماعية والثقافية إلى حضيض الإسفاف والركون إلى التفاهة والابتدال، ما يجعلها محكومة بالتفكك والانهيار؟، إذ إن ما أصبحت تلقنه وسائل الإعلام الجديدة، من معارف ومهارات سلوكية ولغوية وتجارية، تشكل منفذ خطر محدق بالأفراد والجماعات، يستعصي معها العودة إلى “المنبع” الذي اشترط بيير بورديو أن يتكيف مع ما يسميه ب”سيرورة التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض”، وإلا وقعنا في المحظور، وأصبح من الصعب الحديث عن إصلاح قابل للتحقق.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button