
شدد البروفسور خبير التحليل النفسي عبد الهادي الفقير أن مكتشف آليات اللاشعور هو الطبيب والمحلل النفسي الشهير النمساوي سيغموند فرويد Sigmund Freud ، وهو المبتكر الحقيقي لتقنيات علاج الاضطرابات النفسية التي تسببها رواسب اللاشعور، مشيرا في محاضرة ألقاها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش صبيحة الأربعاء 26 فبراير 2025 أن كلمة ” اللاشعور ” لها جذور أصيلة في تأملات الفلسفة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، خصوصا لدى الفلاسفة الألمان الذين أشاروا في مباحثهم إلى وجود قوى خفية ومجهولة تتحكم في سلوكيات الناس، بيد أنهم نسبوها الى جوانب فسيولوجية لدى الانسان، وأشارت الفلسفة آنذاك إلى وجود قوة لا شعورية تحرك العالم، معتبرة ” المطلق ” روحا محركة للتاريخ….
ويؤكد المحاضر عبد الهادي الفقير أن نظرية التحليل النفسي كما قدمها فرويد لم تكن لتترسخ علميا لولا إسهامات ثلاثة أطباء كان لهم دور محوري في تشكيل أفكاره، ويتعلق الأمر بالطبيب الفرنسي الأخصائي في علم الامراض العصبية جان مارتن شاركو Jean-Martin Charcot الذي اشتغل في مجال التنويم المغناطيسي والهستيريا، واستفاد منه فرويد أيما استفادة على المستوى المنهج العلمي في التعامل مع الاضطرابات النفسية واكتشاف تأثير العوامل النفسية في حدوث الأعراض الجسدية، وكذا ملاحظته على الآثار الضارة للتنويم المغناطيسي على شخصية المريض، والتي كان يباشرها شاركو إذ يقول فرويد عن ذلك أن المرضى في بعض الأحيان وتحت تأثير الإيحاء كانوا يستحضرون ذكريات مزيفة ويصرحون بأشياء لا يعرفونها أثناء تنويمهم.

هذا وتوقف المحاضر على الشخصية الثانية التي تأثر بها فرويد ويتعلق الأمر بالطبيب النمساوي جوزيف بروير Josef Breuer الذي أعجب فرويد بطريقته الجديدة لعلاج الهستيريا وكذا تقنيات التفريغ التي كان ينهجها بروير مع مرضاه بالإضافة الى استخداماته للتنويم بالإيحاء في الجلسات العلاجية ودفع مرضاه لتذكر مشاعر وانفعالات أحداث لم يستطيعوا تذكرها في اليقظة، مما يساعدهم على الشفاء عن طريق التنفيس و” العلاج بالكلام” أو ” كنس المداخن “…. فيما تمثلت الشخصية المؤثرة الثالثة على الأفكار المبكرة حول اللاشعور والعصاب لدي فرويد في الطبيب الألماني فيلهلم فليس Wilhelm Fliess الإخصائي في أمراض الأنف والأذن والحنجرة الذي اعتبره فرويد من خلال الرسائل المتبادلة بينهما بمثابة ” جمهوره الوحيد ” وكنزا لتطوير المفاهيم الأساسية في التحليل النفسي، خاصة فيما يتعلق بأهمية الجنسية في تكوين العصاب، كما كانت صداقة فليس بسيغموند فرويد تتجاوز تبادل الأفكار النظرية حول التحليل النفسي للامتداد الى الجانب الشخصي، حيث لعب فليس دورًا مهمًا في التعامل مع بعض الاضطرابات النفسية والجسدية التي عانى منها فرويد في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، وبالإضافة إلى موت أبيه والأعراض التي كانت تعكس أزمته العصابية كلها تماهت فيما بينها لتفشل في معالجة اضطراباته أو على حد تعبير المحاضر أنه عولج بما ابتكره وأن معاناته الشخصية كانت جزء أساسيا في تطوير المفاهيم الأساسية للتحليل النفسي، مثل اللاوعي، الكبت، والعصاب النفسي.

ومن جهة أخرى أشار الدكتور عبد الهادي الفقير في المحاضرة التي نظمتها شعبة علم النفس بجامعة القاضي عياض، والتي أدارها بسلاسة رئيسها الدكتور مصطفى السعليتي أن أتباع وتلاميذ فرويد طوروا الكثير من مفاهيم التحليل النفسي سواء عن طريق التوسيع فيها أو مراجعتها أو تقديم قراءات نقدية لها، ويعتبر التحليل النفسي اللاكاني (Jacques Lacan):المؤسس والأخصائي الاحترافي للعودة إلى مدرسة فرويد Retour à Freud حيث أعاد قراءة هذا الأخير في ضوء علم اللغة والفلسفة البنيوية، معتبرا أن اللاوعي هو منظم مثل اللغة، وأن الذات ليست كيانًا ثابتًا، بل هي بناء رمزي يتشكل عبر الخطاب الاجتماعي. هذا ووقف المحاضر بتفصيل على ثلاثية النظم والتقسيمات اللاكانية للخبرة الإنسانية والمتمثلة في مرحلة التخييل ( Imaginaire ) والترميز Symbolique) ) والوقعي ( (Réel، وكذا وظائفهم ورمزياتهم معرجا على مفاهيم الرغبة والدال والمدلول واسم الأب والمتعة والذات المنقسمة بين ما يريد الإنسان وما لا يستطيع قوله… وغيرها من المفاهيم في فهم الإنسان في علاقته باللغة والرغبة والآخر …بعيدا عن التفسيرات البيولوجية البحتة.
وخلصت المحاضرة بعد نقاشات علمية أخصائية إلى أن نظريات التحليل النفسي شكّلت من فرويد إلى لاكان، ثورة في فهم النفس البشرية، حيث انتقلت من التركيز على الغرائز واللاشعور إلى اعتبار الذات ككيان لغوي منظم ضمن بُنى اجتماعية ورمزية. ورغم تطور علم النفس بمناهجه المختلفة، لا يزال التحليل النفسي يحتفظ بأثره العميق في فهم الاضطرابات النفسية وتفسير سلوك الأفراد داخل المجتمع.

هذا ولا زال للتحليل النفسي أهمية كبرى في السياق المعاصر بتأثيره الجلي على علوم متعددة، كالأدب والفلسفة وعلم الاجتماع، إذ تبقى مفاهيم مثل اللاوعي، والكبت، والدال والمدلول حاضرة في دراسات الهوية والذات والعلاقات الإنسانية. ومع ذلك، فإن النظريات اللاكانية، رغم ثرائها الفلسفي، تظل موضع جدل بين القبول والرفض. فمن جهة، يرى مؤيدو لاكان أن مقاربته اللغوية أعادت قراءة فرويد في ضوء مفاهيم بنيوية وسيميائية، مما سمح بفهم أعمق للذات والرغبة والآخر. كما أن تأثيره لا يقتصر على العلاج النفسي، بل يمتد إلى تحليل الخطاب والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي.
لكن من جهة أخرى، يواجه التحليل النفسي اللاكاني انتقادات حادة، خاصة في الأوساط العلمية التي تطالب بأدلة تجريبية تدعم نظرياته. كما يرى منتقدوه أنه يعتمد على مفاهيم مجردة يصعب اختبارها إكلينيكيًا، مما يضعه في تناقض مع مناهج علم النفس الحديث القائم على التجربة والقياس العصبي. كما أن لغته المعقدة تجعله بعيدًا عن التطبيق العلاجي المباشر، مما دفع بعض الباحثين إلى اعتباره أقرب إلى التأمل الفلسفي منه إلى الممارسة الإكلينيكية. هذا ورغم الجدل الدائر حول مدى علمية النظريات اللاكانية، فإنها تظل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ التحليل النفسي، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم الإنسان، ليس فقط كفرد يخضع لدوافع نفسية، بل ككائن لغوي تتشكل هويته في تفاعل مستمر مع الآخر. ولعل بقاء هذه النظريات في صلب النقاشات الأكاديمية والنقدية حتى اليوم هو دليل على أهميتها، سواء من منظور تبنيها أو إعادة تقييمها في ضوء التطورات العلمية الحديثة.
*استشاري أسري وكاتب صحفي