‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د حسن بولهويشات: لا أعرف أن أتحدّث عن الشّعر!

……………..

لا أعرف أن أتحدّث عن الشّعر كما يفعل كثيرون في الفيس بوك. غير أني أفهم أن الشّعر وغدٌ حقيقي ومجرم حربٍ. ديكتاتور يقود الجميع إلى الإعدام بسيجارة في الفم. صعلوكٌ ورجل شوارع وأزقة وبلا بيتٍ تقريبًا ولا مبادئ. مزاجيٌّ وبلا وجهة محدّدة ومفكّك مثل قطاع الغيار ولا يتّحد إلا مع نفسه. منفلتٌ مثل الماء بين الأصابع ومتردّد لا يطمئن في مكانٍ إلا ليغادر ويضيع في الزحام.

الأمر يتعلق بفتاة مراهقة تكتشف نهديها أمام المرآة لأوّل مرّة. الفتاة التي كبرت سريعًا فصارت امرأةً شامخة تطوّق المكان بترسانتها الباهظة وتدفع الجميع إلى العدم بهزّة ردف واحدة، امرأة تجيد الإغواء وتحرك الطلبيات في مرقص كبير قبل أن تتأبط ذراع رجلٍ غريب ويخرجان لإتمام السهرة على انفراد في مكان بعيد. وربما تأففت من الجميع وسَحبت ظلها وذهبت للنوم وحيدة. السهرة بخواتيمها والقصيدة بمزاجها. أتحدّث فقط عن اللحظة الشعرية وعن الدفقات المشحونة بمشاعر الإحساس باليتم والظلم من جهات مجهولة. وعن الستارة الشفافة التي تفصل المخيلة عن الواقع؛ ستارة الحمّام التي تفصل رشّاش الدوش عن كرسي المرحاض الحزين. وأيضًا عن العزلة كشرط أساسي، فالكثير من الشعراء ماتوا بسبب الضجيج وسوء تقدير القصيدة.

الحق أنّ الحضور اللافت للرواية في السنوات الأخيرة واحتضانها بالجوائز والموائد المستديرة، غطى على غابة الشّعر الكثيفة وعلى أفرادها الشّعراء الذين صاروا مثل أيتامٍ في العيد، ومنهم من التقط الإشارة وهاجر حسير النفس والخيال إلى الكتابة الروائية التي أصبحت موضة العصر، وأصبح الحديث ممكنًا عن “زمن الرواية”. وصار استعجاليا تعميق السؤال بخصوص مآل الشّعر العربي الذي صار صوتًا خافتًا في جوقة كبيرة، وهسيسًا في كورال العصر العامر بالرقميات ووسائل التواصل الجديدة. وصار أيضًا مجرّد حروف تسلية في صفحات الفيس بوك يكتبها كلّ من لدغته ذبابة صغيرة. وهل الشّعر مجرّد خدشٍ صغير على طاولة الحياة التي تحفّ حولها تناقضات وتوتّرات العالم وتبدّل أحوال النّاس والمكان؟ ولماذا لا نقلب الطاولة تماهيًا مع هذا التوتر، وتعبيرًا عن القلق الوجودي الذي هو مطلب أساسي في الكتابة الشّعرية؟

أمّا نقاد الشّعر، وهم أولى بالإجابة على هذه الأسئلة، فقد صار عددهم أقلّ من القليل بعدما عجزوا عن إيجاد مسارب نقدية حقيقية لقراءة ومجاراة مستويات التجريب في قصيدة النثر. إنّه التجريب الذي أضرّ بالشّعراء والنقاد على السواء، والفراغ الذي استغله بعض كُتّاب القسم الثقافي في الصحافة العربية للظهور بقبعة الناقد وصيّاغة فتاوى في أمور الشّعر بلغةٍ ناعمة تنحاز إلى المدح والإطراء أكثر مما تتحرى الموضوعية ورصد تحوّلات القصيدة.

لنكن صادقين في هذا المساء الهادئ، ونقول إنّ الكثير من نصوص شعراء “الجيل الجديد” تفتقر إلى التجربة (وليس التجريب)؛ ونعني بها التجربة الحياتية العميقة التي يمكن على ضوئها التمييز بين القصيدة الأصيلة التي تفصح عن ذات الشّاعر في علاقتها بالعالم والمكان، وعن قدرتها على الإصغاء إلى نبض الأشياء والتفاصيل الصغيرة، وبين القصيدة الهجينة التي تستورد تجارب شعراء آخرين من جغرافيات بعيدة وتُحاول إعادة صياغتها في قالب تخييلي باهت. ولا عجب أن تتردد تجاربُ أسماء شعرية كبيرة في تجاويف قصائد هذا الجيل الجديد الذي تنقصه الجِدّة في التعامل مع المقروء الشعري، وأخذ مسافة الأمان من غموض أدونيس، ومن بحّة صوت محمود درويش، وتسريحة شَعر سركون بولص، وزجاجة خمر بوكوفسكي وكاف التشبيه عند محمد الماغوط، وغيرهم ممن توزعت أغراضهم بين الأفراد والقبائل. وهل هناك تقزّز أكثر من استعمال أغراض الموتى؟ الموتى الأحياء الذين نرسل لهم تحية واعتذارًا بالنيابة عن جيلٍ بأكمله.

وإذا كان هناك من عملٍ خيري يُحسب لهذا الجيل، فهو هذا الإسهال الشعري (الإسفاف الشعري؟) وتسونامي القصائد الذي يطلع علينا في مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية التي تتناوب في الظهور والاختفاء مثل الثعلب في رواية محمد زفزاف، لدرجة أن المجلات والدوريات المتخصصة توقفت عن الصدور دون أملٍ في العودة. وهل يسحب القرّاء الثقة من الذي يُؤنسهم على مدار الساعة ويمنحونها للذي يطل عليهم مرّة كلّ ثلاثة أشهر مثل فصلٍ من فصول السنة، وفي أحسن الأحوال مرّة في الشّهر مثل الهلال؟ إنّه الإسهال الذي يترك الانطباع بأنّ أكثر من نصف سكّان البلاد العربية هم شعراء وشاعرات بالمحاكاة والتماس. بل إنّ هناك من البيوت ما يمثل القصيدة العربية بجميع أجيالها، ولا نقصد هنا “الجيل” بمفهومه النقدي كما يشرحه صديقنا الناقد عبد اللطيف الوراري، وإنما ببساطة: الجد والأب والحفيد الذين يكتبون “الشّعر” وينشرونه بالتوازي وليس بالتزامن. وهذه احدى المفارقات العجيبة التي بشّرت بها “قصيدة النثر” هذه الأيام، وأغفلتها سوزان برنار. إنه السيل العكر الذي يحمل الأتربة وأعوادَ أشجارٍ يابسة، وجثث حيوانات نافقة، وملابس متخلى عنها، وعلب تصبير فارغة؛ ربما تعود لصيادين مرّوا في الجوار.

مع ذلك، هناك تفاؤل مع بعض الأصوات الشعرية الجديدة، التي يمكن إدراجها ضمن “المجهول في الشّعر العربي” كما قال لي الشّاعر سعيد الباز ذات مرّة، على اعتبار أن هذا الشّعر ينمو في الأطراف مستمدًا الحياة من نفسه. وخارج دوائر المؤسسات الثقافية والاتحادات الأدبية، وخارج ملفات وأنطولوجيا الشّعر. لكنّه شعر حقيقي يحتضن نفسه بنفسه ويعبق برائحة المكان والأرض وبرائحة أصابع الشّاعر المتروكة بين جملة وأخرى. إنّه الصباح الوضيء وخشخشة رغيف الجدّة في الأشداق. إنّه الشّعر الذي يراهن على المستقبل أكثر من الحاضر، لذلك ننتظر دومًا موت هؤلاء الشّعراء كي نقرأ لهم. نحن شعبٌ يقرأ للموتى!

لسنا هنا في موقع إلقاء الدروس، لكننا نفهم –على قدر المستطاع- أن الشّعر متغير في الزمان والمكان وعصيّ على التنميط والقوالب الجاهزة، ويصعب تجريده من الحريّة وطبيعته الفردية. ولا تتحدّد قيمته في طرقات الحدّادين وما تفرّع عنها من تفاعيل وزحافاتٍ وعلل. وقطعًا ليس إيقاعًا لغويا فحسب كما يريده البعض. وأبدًا ليس تفريغًا لنظريات وتصوّرات نقدية. ولا حتّى ورشاتٍ لإعداد وتدريب الناشئة على كتابة الشّعر كما لو أننا نُعدّ فريق كرة القدم لخوض نهائيات كأس العالم.

كما أن الشّعر العربي لا يقف عند حدود مجلة شعر وبيان أنسي الحاج في لبنان. ولا عند حدود مجلة المعطي حجازي في مصر بالنسبة لأصدقائنا التفعيليين. وفي حالة المغرب، على سبيل المثال وتقريب الصورة، الشّعر ليس هو بيت الشّعر ولا اتحاد كتّاب المغرب مع تقديرنا لجهود هاتين المؤسستين في إشاعة القصيدة والانتصار لها. وليس هو علال الفاسي، كما درسنا في الثانوية، والذي ارتبط اسمه بالحركة الوطنية وله اجتهادات فقهية يحتج بها علماء المغرب والجزائر وتونس في شهر رمضان. ولا أستاذنا عباس الجراري كما أراد بعض الأساتذة الجامعيين، على حداثتهم بالمهنة، أن يقنعوننا، مع تثميننا طبعًا لمجهودات الرّجل في التأريخ الأدبي والتأطير الأكاديمي. ومع وجود أملٍ كبير في المدارس والجامعات من أجل الانفتاح على الحداثة الشّعرية.

نريد أن نصل إلى أنّ الشّعر ليس مناسبة عابرة ولا فريقًا من الشّعراء يذرعون معرض الكتاب مثل لجنة مراقبة الأسعار. ولا دروسًا ووصايا فيسبوكية يكتبها شاعرٌ أو ناقد في ساعة متأخرة من الليل بإيعاز من الجعة الوطنية والتصعيد الكحولي. إنه ببساطة موهبة وتجربة مريرة ممتدة في الزمن، وقدرة على الحفر في صخرة الخيال بإزميل الأظافر وقليل من الجنون. إنّه ميزان المخيلة وإيقاعها الجارف، و”خراب الدورة الدموية” بتعبير الشّاعر السوري الرّاحل رياض الصالح الحسين. إنّه كلّ شيءٍ ولا شيء تقريبًا.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button