(كتب عبد الهادي الموسولي) : قبل خمسة قرون من الآن بدأت العلاقات الدبلوماسية المغربية مع القوى الاوربية الكبرى تتبلور ، ومن بينها ألمانيا وفرنسا ، وحسب الأحداث التاريخية فان العلاقات المغربية الألمانية طبعها الهدوء والحكمة والمصالح المتبادلة ، بينما العلاقات المغربية الفرنسية كانت ميزتها التوتر وتهور الجانب الفرنسي واستعمال كل الأساليب الامبريالية المقيتة .
تخبرنا المصادر التاريخية أن العلاقات المغربية مع ألمانيا بدأت بشكل رسمي سنة 1506 م في أواخر الدولة الوطاسية ، وذلك بإنشاء علاقة تجارية مع مدينة أسفي . وفي حدود 1577 م استغلت فرنسا ضعف الدولة السعدية في عهد السلطان محمد المتوكل فأنشات قنصلية بمدينة فاس بغرض التجسس على الأوضاع الداخلية للمغرب . الا أن انتصار السعديين في معركة واد المخازن على البرتغال سنة 1578 م جعل فرنسا تجدد حذرها من قوة الدولة المغربية في عهد “احمد المنصور الذهبي” ، لكن فرنسا ستفكر في استعمار المغرب لأول مرة في تاريخها سنة 1619 م مستغلة ضعف الدولة السعدية بعد وفاة المنصور الذهبي وانقسام المغرب في عهد خلفه، وذلك في عهد الملك لويس 13 الذي أرسل مجموعة من الجواسيس متنكرين في بعثات ديبلوماسية الى المدن المغربية . الا أن قيام الدولة العلوية أعاد نوعا من الهبة للدولة المغربية ، فاختارت فرنسا توجها دبلوماسيا هادئا خلال نهاية القرن 17 م وبداية القرن 18 م في عهد الملكين “إسماعيل بن الشريف” و”لويس 14″ . واستمر نفس الهدوء الدبلوماسي في عهد “سيدي محمد بن عبدالله” ، الذي انتهج سياسة الانفتاح على الغرب ، ففي عهده وقعت الدولية المغربية اكبر عدد من المعاهدات التجارية والدبلوماسية من بينها الاعتراف بالولايات المتحدة الأمريكية دولة مستقلة.
خلال القرن 19 م تجدد التهافت على المغرب من طرف مجموعة من القوى الامبريالية وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا . حيث كانت فرنسا تعترض على تزويد المغرب للسفن الإنجليزية بالمؤونة والمواد الأولية ، إذ راسل “نابليون بونبارت” اقامته العسكرية في مدريد سنة 1808 م ،يطلب فيها من ضباطه ارسال تهديدات عسكرية لإخافة المغرب ، وكان هذا التهديد من بين العوامل التي أدخلت المغرب في سياسة الحدر من اوربا في عهد السلطان “سليمان”.
بعد احتلال فرنسا للجزائر ،مستغلة ضعف الدولة العثمانية، سنة 1830 م . تجددت أطماعها في المغرب ، فاستغلت مساعدة السلطان “عبد الرحمان بن هشام” للمقاومة الجزائرية التي تزعمها “الأمير عبد القادر” ، وشنت أولى حملاتها على الأراضي المغربية ، ملحقة هزيمة نكراء بالجيش المغربي سنة 1844 م . حينئذ أحست فرنسا بمدى ضعف الجيش المغربي ففرضت عليه صلح “لالة مغنية” سنة 1845 م . الذي ترك الحدود بين المغرب والجزائر غامضة الى يومنا هذا ، في حين تم إلغاء معاهدة “تافنا” التي وقعها السلطان “امحمد بن الشريف” مع الإمبراطورية العثمانية سنة 1634 م ، والتي تعترف فيها الدولة العثمانية بأن الحدود بين المغرب والجزائر هي واد تافنا شرق تلمسان حاليا . تزامنا مع هذه الوقائع كانت ألمانيا ترسل مجموعة من البعثات الدبلوماسية والطبية صوب المغرب ، ولعل أشهرها الحملة الطبية التي قادها “جرهارد ورلفز” سنة 1873 م والتي ذكرها في كتابه “رحلتي الأولى الى المغرب” . وقتها كان المستشار الألماني القوي “بسمارك” يعتزم تسليح المغرب وبناء شبكة من السكك الحديدية ومحطات “التلغراف” على الأراضي المغربية ، إلا أن وفاة السلطان “محمد الرابع” وظروف تولية السلطان “الحسن الأول” حالت دون انجاز هذه المشاريع العملاقة ، استغلت فرنسا هذه الظروف مستفيدة من توقيع “تسوية بيكلار” سنة 1863 م مع المغرب ، والتي بموجبها حصلت فرنسا على حق الحماية القنصلية ، حيث اصبح قناصل الدول الأجنبية والمحميين المغاربة التابعين لهم أقوى من أجهزة الدولة . في عهد الحسن الأول احكمت فرنسا قبضتها على المغرب وأصبحت توجه الدولة المغربية كما تشاء ، ولعل اكبر دليل على ذلك تمكن فرنسا من ضرب عملة جديدة للمغرب في باريس سنة 1881 م ، تم حملها في صناديق من فرنسا الى المغرب ، وكان مقابل هذه العملة النحاسية الرديئة القيمة تخلي المغرب عن احتياطه من الذهب والفضة لصالح فرنسا .
في مطلع القرن 20 م شرعت فرنسا في احتلال الأراضي المغربية من جهة الشرق وضمها لمستوطنتها في الجزائر ، مستغلة حالة الضعف التي دخلتها الدولة المغربية في عهد السلطان “عبدالعزيز” ، وركزت كل جهودها على احتلال المغرب وابعاد كل المنافسين ، وفي هذا الصدد وقعت فرنسا اتفاقيتين سريتين مع كل من إيطاليا سنة 1902 م ومع إنجلترا سنة 1904 م مضمونهما أن تغير إيطاليا وجهتها صوب ليبيا ، وانجلترا صوب مصر ، بعد علم ألمانيا بالاتفاق الودي الفرنسي الإنجليزي لسنة 1904 م ، قام الامبراطور الألماني “كيوم الثاني” بزيارة لمدينة طنجة سنة 1905 م احتجاجا على المخطط الاستعماري لفرنسا وانجلترا ، وكذا توطيدا لمصالح المانيا في المغرب . لكن فرنسا تحالفت مع اسبانيا وتم تنظيم مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906م ، بموجبه تم تقسيم المغرب بين الدولتين بعد التخلص كل الخصوم باستثناء ألمانيا التي ظلت مصرة على ملاحقة فرنسا .
في سنة 1907 م ستباشر فرنسا استعمار بعض مناطق المغرب الاستراتيجية كمدينة وجدة والدار البيضاء ، ثم توسعت في الوسط الشمالي محتلة فاس ومكناس ، الشيء الذي أثار حفيظة الألمان ، فأرسلوا حملة عسكرية الى ميناء أكادير سنة 1911 م ، الا أن فرنسا تنازلت لألمانيا على جزء من حوض الكونكو بغرب افريقيا لتجنب أي نزاع مسلح مع ألمانيا … وهكذا أصبح المناخ السياسي الدولي مناسبا لفرنسا كي تبسط سيطرتها على التراب المغربي مناصفة مع اسبانيا . فاضطر السلطان “عبدالحفيط” لتوقيع معاهدة الحماية مع فرنسا سنة 1912 م . بموجبها دخل المغرب تحت الحماية الفرنسية لمدة نصف قرن من الزمن .
خلال فترة الحماية باشرت فرنسا استغلال خيرات المغرب أبشع استغلال ، كما نكلت برموز المقاومة المسلحة وكذا رموز الحركة الوطنية ، وهو ما وصفته ألمانيا بالاعتداءات الهمجية للسلطات الفرنسية سنة 1937 م . وقد حاولت المانيا استمالة بعض رموز الحركة الوطنية مبدية تعاطفا كبيرا معهم ومن بينهم “محمد الوزاني” و “محمد الناصري” و “عبدالسلام بنونة” . لكن هذا التنسيق سينتهي سنة 1942 عند الانزال العسكري لدول الحلفاء بالأراضي المغربية بدعم من فرنسا .
بعد حصول المغرب على الاستقلال ، استمرت التبعية الاقتصادية لفرنسا ، في نفس الوقت حافظ المغرب على علاقات جيدة مع ألمانيا ، ولعل ما يعرفه الاتحاد الأوربي اليوم من تصدعات يعود جزء كبير منها لتصرفات فرنسا مع مستعمراتها ومن بينها المغرب . حيث أن المنافسة الاقتصادية على أشدها داخل دول المركز بالاتحاد الأوربي ، فرنسا تكيل بمكيالين ، لها نصيب الأسد من الاتفاقيات الاقتصادية مع مستعمراتها ولها أيضا قسمة ضيزى داخل الاتحاد الأوربي ، وهذا من بين الأسباب التي جعلت إنجلترا تغادر الاتحاد ، وأظهر صراعا واحقادا مدفونة مع كل من إيطاليا وألمانيا ، وربما سيصبح الاتحاد الأوربي من الماضي في القريب العاجل .
استمر صمت فرنسا تجاه الوحدة الترابية للمغرب منذ الاستقلال ، رغم أنها تمتلك كل خيوط اللعبة ، واستمرت سياستها في زرع كل أشكال الأحقاد بين الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري ، مستفيدة من كون النخبة الحاكمة في البلدين أغلبها لها جنسيات فرنسية تتمتع بأقصى درجات الفرانكفونية الهجينة . فرنسا تمسك العصا من الوسط بين المغرب والجزائر ، تحافظ على توازنها بمنتهى الدقة والصرامة . لكن دوام الحال من المحال ، فانفتاح المغرب مؤخرا على العالم الأنكلوسكسوني بشر بنهاية التبعية لفرنسا وجعل ألمانيا تندم عن سوء فهما .