في الحلقة السابقة حاولت مقاربة مجموعة من العوامل والأسباب الموجبة للتفكير في تغيير واقع الجامعة المغربية الذي يعتبر مسؤولية جماعية ومجتمعية وضرورة ملحة، بل وفرض عين على كل الفاعلين. في هذه الحلقة سأحاول تقديم بعض عناصر الإجابة عن السؤال المرتبط بتدبير زمن التغيير مع استحضار مجموعة من الفرضيات التي قد تحتاج إلى المزيد من التدقيق، بل و إخضاعها للدراسة والبحث والتمحيص من قبل الباحثين المدعوين للمساهمة في النقاش والحوار.
إن التغيير الذي عرفته الجامعات الغربية في بنياتها وهياكلها وبرامجها ومناهجها وأنماطها ومراتبها العلمية والأكاديمية، لم يكن ليحصل دون التدبير الجيد لعنصر الزمن وما رافقه من التغيير العميق في السياسات والاستراتيجيات والمخططات من جهة، و في طبيعة النخب والقيادات الجامعية وطرق تفكيرها وما تحمله من قيم وسلوكيات ومبادئ وأفكار ورؤى جديدة ومستجدة من جهة أخرى. ولعل من العوامل المساهمة في تقدم هذه الجامعات الإيمان بمكانة العلم والمعرفة في هذه المجتمعات، وما رافق ذلك من اهتمام بارز بالأستاذ والطالب والإداري على حد سواء، من النواحي الرمزية والمعنوية وكذا المادية.
إن التغيير وما يحمله من معاني القطيعة مع مرحلة سمتها الجوهرية، وجود هياكل وبنيات مترهلة ومؤهلة لتؤسس لممارسات بالية ولأنماط تفكير محاطة بسياج من الانغلاق والبؤس الفكري والرغبة في التطاول على كل من يخالف الرأي، بل والميل للاستخفاف بالآراء والأفكار والمقترحات . هذا التغيير ما كان ليحصل لو لم توجد متناقضات ساهمت في ولادة نخب وقيادات حاملة لمشعل التغيير العميق في القيم والسلوكيات والقناعات، وقادرة على تحمل عبء المسؤولية في تعبئة باقي الفاعلين وإقناعهم بالانخراط وحاملة لهموم الأمة والمجتمع.
إن سؤال تغيير أحوال الجامعة والترقي نحو قمة المجد والبحث عن المراتب الأولى من حيث التكوين والتأطير والبحث، يفترض ويستوجب طرح مجموعة من الفرضيات التي لا مناص من وضعها والبحث في مدى دقتها وصحتها، ومن تم، نفيها أو تأكيدها والاستعداد الدائم للتصحيح والتصويب استحضار لقيم التواضع والليونة في معالجة مثل هذه المواضيع المعقدة والشائكة. من هذه الفرضيات:
1.إدراك الفاعل الجامعي(الإداري والأستاذ والطالب) للدلالات والمعاني الحقيقية للتغيير في فضاء الجامعة وعدم تسييج العقل والفكر و التفكير في فسيفساء من المبادرات الارتجالية البسيطة و التجزيئية والروتينية التي لا ترقى إلى طموحات أمة تبحث عن موقع لها في عالم متقلب ومستقبله غير آمن. فالتغيير الحقيقي في فضاء الجامعة، قد يستوجب التفكير في استئصال الممارسات السلبية وبناء قيم إيجابية وترسيخ مبادئ سامية وبلورة رؤى عميقة واستراتجيات شمولية ومتناسقة ومنسجمة مع استراتجيات البناء المجتمعي السليم.(يمكن دراسة ظاهرة أخلاقيات البحث العلمي وطرق ترسيخها، وظاهرة الفساد الإداري والبيداغوجي والمالي وطرق محاربتها، وعمليات الرقابة والتقييم والمحاسبة وطرق تخليقها وظاهرة الغش بكل أشكاله(الممارسات المهنية، الامتحانات، المباريات، الصفقات….) وآليات محاربتها.
2.الإيمان العميق بفكرة التغيير وإدراك دلالته وأهميته وحمولته من قبل الفاعلين في فضاء الجامعة وأصحاب القرار، هذا الإيمان ملازم لمدى استحضار الأخلاقيات المهنية العالية في تحمل المسؤوليات الإدارية والبيداغوجية وفي عمليات التعليم والتعلم والتكوين والتأطير والبحث، وملازم أيضا لمدى التشبع بقيم المواطنة الحقة والحس الإنساني النبيل والقدرة على تدبير العلاقات والمعاملات والمخاطر. فالتغيير، قد يكون جزئيا أو شموليا، عموديا أو أفقيا ، و قد يراد به تغيير في طبيعة القيادات الإدارية والسياسات أو في الأهداف أو في الاستراتيجيات أو في الهياكل والبرامج والمناهج والأنماط. و قد يراد به تغيير في طبيعة العلاقات والقيم والسلوكيات والرؤى والأفكار أو غير ذلك.
3.التحرر من القيود الذاتية من أنانية وكبرياء وضغائن ومكائد وحسد وحقد بدون أساس ولا معنى وتجاوز التمثلات السلبية للكراسي والمناصب والمسؤوليات والنظر إلى المستقبل بتفاؤل وبروح إيجابية. والإيمان بكون تحقيق الذات يمكن أن يتم في إطار احترام الآخر وآراءه ودون تبخيس عمله ومجهوداته واستحضار قيم التعاون والتعاضد والتآزر. والاقتناع بكون نجاح الفرد وتميزه وتفوقه لا يعني بثاثا تخلف الآخر وتعثره، بل هو حافز لشحذ الهمم والجد والاجتهاد. وهو ما معناه بناء شخصية متوازنة قادرة على الانخراط الإيجابي في عمليات التغيير والبناء الحقيقي مع نكران الذات واستحضار سلطة العقل والقانون والسلطة التربوية في بناء أنماط تفكير إيجابية ومراجعة القناعات المفرملة والمكبلة للجد والاجتهاد.
4.الإيمان العميق بروح الفريق والعمل الجماعي والمؤسساتي الهادف إلى الفهم الجيد للهدف المشترك والعمل من أجل تحقيقه بشكل جماعي بعد صياغة برنامج طموح وبناء رؤية واضحة وتحديد منهجية دقيقة. إن الفرد يصبح أكثر فاعلية في إطار فريق منسجم ومحتضن و إيجابي ومحفز ومدرك لقيمة ومعنى المهنة والوظيفة والمسؤولية. فالاشتغال بمنطق روح الفريق وآلية العمل الجماعي، ينمي فرص البناء المشترك و تبادل المعلومات والخبرات والتجارب وصقل المهارات وتمتين القدرات والرفع من جودة الأداء الإداري والبيداغوجي والعلمي في رحاب الجامعة.
5.بناء الوعي الجمعي والذكاء الجماعي والتفكير الإيجابي ومحاصرة الممارسات والآراء والتوجهات السلبية و الهدامة المناقضة لقيمة القيم(كما سماها عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة)، وفسح المجال لصياغة رؤى وأفكار جديدة ومستجدة على أنقاض الممارسات البالية وأحيانا القذرة والمناقضة لروح العلاقات الإنسانية النبيلة. تحقيق هذا التحول النوعي رهين بإدراك النخب الجامعية للواقع الحقيقي للجامعة ورصد مكامن الخلل وعناصره ومكوناته، ومدى قوة تأثير هذه العناصر، وتفاعلاتها، وأسبابها وآثارها المدمرة على القلوب والعقول، وتحديد ما يمكن فعله لبناء جامعة فاعلة ومتفاعلة مع قضايا الأمة والمجتمع.
6.إدراك القيمة الذهبية لعامل الزمن والاقتناع بكون هدر زمن التغيير هو عمل منبوذ ومناقض لفلسفة الوجود ضمن جامعة ترغب وتبحث وتعمل من أجل ضمان موقع لها في المراتب الأولى إقليميا وعالميا. فما يطغى على بعض السلوكيات والممارسات والمبادرات هو طابعها المحدود والارتجالي والانغلاقي، والذي يساهم بشكل جلي في هدر الطاقات والإمكانات والوسائل وفي هدر زمن التغيير. وهو ما يساهم بشكل كبير ،من جهة، في إعادة إنتاج ممارسات وسلوكات أكثر تخلفا وبؤسا وأكثر تناقضا مع خطاب التغيير والإصلاح ومن جهة أخرى، في إفراغ البرامج والخطابات والمسؤوليات من معانيها ودلالاتها الحقيقية. وقد أصاب الفيلسوف الأمريكي وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية Ben gamin Franklin في مقولة نقلها عنه السوسيولوجي الألماني SOMBART حين قال:
« … si le temps est la plus précieuse des choses, le gaspillage de temps est le plus criminel des gaspillages »
وهو ما يفيد أنه إن كان الوقت من الأشياء الثمينة، فتبذيره هو من أكثر مظاهر التبذير إجراما.
ترقبوا في الحلقة المقبلة ما قد يشكل مقاربة وموضوعا للتغيير في فضاء الجامعة الذي لا يسمى عبثا الحرم الجامعي، والذي لا يمكن أن يتسع إلا لممارسة الحرية وللعلم والمعرفة و لتكوين النخب القادرة على قيادة التغيير المنشود؟
(يتبع)
* أستاذ القانون العام بجامعة ابن زهر