فنون وثقافةلحظة تفكير

أحـمـد الـشـهـاوي*: كلما رأوا مجتهدًا كفَّروه

أهل البحث والتحقيق والنظر والاستدلال والاستحسان الذي هو : تسعة أعشار العلم كما يقول الإمام مالك بن أنس (93-179هجرية / 711-795ميلادية) ، والسؤال واستنباط الأحكام من أدلَّتها ومصادرها المُقرَّرة ، كالقرآن والسنَّة والإجماع والقياس وغيرها ، ابتغاء لراحة الناس ، هم عندي أحقُّ بأن نطلق عليهم الفقهاء والأئمة ، إذا ما قورنوا بأهل الأثر والأصول ، الذين لا يُعْمِلُون عقولهم أبدًا ، غير أن سمتهم النقل والحفظ ، وكلما رأوا فقيهًا أو مفكِّرا أو فيلسوفًا أو شاعرًا أعمل عقله طردُوه من جِنانهم ، وأخرجوه من المِلَّة ، واعتبروه خارجًا على الجماعة وإجماعها ، ورحم الله ابن خلدون (1332 – 1406ميلادية ) حين وصفهم بقوله : ( هم باديةٌ غُفْلٌ من الصنائع إلا في الأقل ) حسبما جاء في مقدمته . وهو القائل أيضًا في ( المقدمة ) عن أمر وقف الاجتهاد ، وسد بابه ، كأنه يعيش بيننا ، ويعاين أحوالنا : ” ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة – يقصد أصحاب المذاهب : الإمام أبو حنيفة النعمان ومذهبه الحنفي ، و تأسَّس المذهب في العراق ، الإمام مالك بن أنس ومذهبه المالكي، وتأسَّس المذهب في الحجاز ، الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومذهبه الشافعي، وتأسَّس المذهب في العراق ، الإمام أحمد بن حنبل ومذهبه الحنبلي، و تأسَّس المذهب في العراق – ، ودرس المقلدون لمن سواهم ، وسد الناس باب الخلاف وطرقه لَمَّا كثر تشعُّب الاصطلاحات في العلوم ، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ، ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه ، فصرَّحوا بالعجز والإعواز، وردُّوا الناس إلى تقليد هؤلاء، وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب .. ومُدَّعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده ” .

هؤلاء الذين يُعمِلُون العقل ، هم في الواقع يجتهدون ، في زمانٍ أراد فيه أغلبية الشيوخ غلق باب الاجتهاد ، لأنهم لا يريدون بذل أي جهدٍ في العلم ، حيث إنهم غير مؤهلين للاجتهاد ، ذلك الباب الذي فتحه نبيُّ الله واسعًا أمام من يسعى إلى المعرفة ، ولا أحد فينا ينسى موقف أبي حنيفة النعمان (80-150 هـجرية / 699-767ميلادية ) من الاجتهاد ، إذ قال: « آخذ بكتاب الله تعالى ، فإنْ لم أجد فبسُنَّة رسول الله ، فإنْ لم أجد في كتاب الله ولا في سُنَّة رسول الله أخذتُ بقول الصحابة ، آخذ بقول من شئتُ منهم ، وأدع قول من شئتُ منهم ، ولا أخرجُ عن قولهم إلى قول غيرهم ، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشَّعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب – وعدَّد رجالاً – فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا » ، فمن يجتهد لا يعرف التقليد ، لأن الاجتهاد يحتاج إلى سعة معرفةٍ ، وعمق فكرٍ ، ورحابة روحٍ ، وشسوع ثقافةٍ ، وإلمامٍ واسعٍ بمقاصد الشريعة، وفهم مداركها .

وإذا كنتُ قد أثبتُّ هنا قول أبي حنيفة النعمان ، فيلزم الأمر أن أذهب إلى عمر بن الخطاب (٥٧٩ – ٦٤٤ ميلادية ) لأضع رسالته إلى الصحابيِّ أبي موسى الأشعري (المتوفَّى في ذي الحجة سنة 44 هـجرية ) ، لعلها تكون نبراسًا هاديًا لمن لا يفقهون وتختلط عليهم الأمور ، ولا يُدرِكُون روح النصوص ، كما أنهم لا يعرفون فضائل المُراجعة والاعتذار والتغيير والبحث عن حلول توائم العصر ، إذا تلجلج الأمر عليهم واستشكل وتعقَّدَ : ( من عبدالله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد: فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ، فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.

الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ؛ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ؛ وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ أَمْسِ فَرَاجَعْتَ الْيَوْمَ فِيهِ عَقْلَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.

الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ ، ثُمَّ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ ؛ وَقِسْ الْأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا ، وَاجْعَلْ لِمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ ، فَمَنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا اسْتَحْلَلْتَ الْقَضِيَّةَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلشَّكِّ وَأَجْلَى لِلْعَمَى.

وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظِنِّينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ الْأَيْمَانِ وَدَرَأَ بِالْبَيِّنَاتِ ) ، لقد صار من النادر أن نجد أحدًا من ” شيوخ ” زماننا ، يقف أمام فحوى رسالة الخليفة عمر ، أو يسترشد بموقف الإمام أبي حنيفة النعمان ، وهذا عندي كِبَرٌ وجهلٌ وادِّعاءُ معرفةٍ ، وتزييفٌ للنصوص ، وحذفٌ لما هو مُنير في التراث الإسلامي ، بدلا عن الذهاب إلى أهل التشدُّد من الأسلاف وما أكثرهم وأعمَّهُم انتشارًا على أيدي السلفيين والوهابيين في عصرنا ، الذين يذهبون مباشرةً إلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنحُولة والمكذوبة غير الموثوق بها ، أحاديث الخرافة والهذيان ، كأنهم يعيشون في الزمن الذي كان يطلق فيه على الكوفة ” دار الضرب ” ؛ لكثرة الأحاديث التي كانت تُضرب وتُسكُّ فيها ، ف ” الكوفة عُرفت في الحديث النبوي بالوضع والانتحال أيضًا ، حتى كان مالك بن أنس (93-179هـجرية / 711-795ميلادية ) يسمِّيها دار الضَّرْب ” ، كما يشير شوقي ضيف ( 13 من يناير 1910 – 13 من مارس 2005ميلادية ) في كتابه ( تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي ).

لقد خلق الله عباده أحرارًا ليعرفوا ويختبروا ويقيسوا ويجتهدوا فيما بينهم ، كي يواجهوا عيشهم ، ويُسيِّروا أمور حياتهم ، لأن الأحوال تتغيَّر ، والظروف تتبدَّل ، وتختلف الأعراف والعادات من بيئةٍ إلى أخرى ومن زمانٍ إلى آخر ، ولا بد من التخفيف والأخذ بالسماحة ما يوافق الناس ، ويخدم مصالحهم في الدنيا والآخرة ، دون الإضرار بهم ، لأن خير الدين ما كان يسيرًا ، عملا بقول النبي محمد ( إن خير دينكم أيسره ) ، و ذكر الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود ” المتوفَّى سنة 32 هـجرية – 650 ميلادية )

أن ( ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح ) ، وهذا النص يأتي في سياق ” ما استدلَّ به بعض العلماء على الأخذ بالعُرف والعادة في الأمور التي لا نَصَّ فيها ” ، فنحن أبناء أمةٍ الاختلافُ فيها رحمةٌ ، وقد قال قتادة بن دعامة (61 – 118 هجرية / 680 – 736ميلادية ) : ” مَنْ لَمْ يَعْرَفِ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ بِأَنْفِهِ”.

*ahmad_shahawy@hotmail.com

‏مقالات ذات صلة

Back to top button