
إلى أن صرتُ شابًا لم أكن ولا أقراني في قريتي كفر المياسرة نعرف إلى أيِّ مذهبٍ من المذاهب السُّنيَّة الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي) ننتمي ، ولم أسمع أبدًا أحدًا منَّا يتحدث عن السنَّة والشيعة ، على الرغم من أننا كنا قُراءً محترفين ، ونمارس هوايات كثيرةً في الشعر والمسرح وكرة القدم ، وقد درستُ المرحلة الابتدائية في القرية ، بينما درست المرحلتين الإعدادية والثانوية في بلدة مجاورة تبتعد حوالي كيلو مترين عن قريتنا هي الزرقا ، و كنا نذهب إليها سيرًا على الأقدام ، وفي السنة الأولى الإعدادية رأيت أولَ مسيحيٍّ في حياتي ، إذْ لم يكن يعيش في قريتي المطلة على نهر النيل مسيحيون ، ربما لعزلتها ، أو كونها تقع على شمال السماء ، ومن فرط الأساطير التي كنَّا نسمعها عن المسيحيين ، كنت أنظر إلى زميلي الجديد باعتباره كائنًا غريبًا قادمًا من عالمٍ آخر ، حتى اعتدتُ الأمر ، فوجدت أن له يدين وقدمين مثلي ، ولا فرق بيننا في شئ ، و لما كبرت قليلا قالت لي جدتي لأمي عطرشان : إن طبيب أمي نوال عيسى كان مسيحيًّا اسمه وليام ، وهي التي ماتت بين يديه ، عندما كانت تضع طفلها السادس وقد مات معها أيضًا ، وكانت عائلة أمي تثق فيه ثقة شديدة .
و لم تكن لدينا حساسية من أيِّ نوعٍ ونحن أطفال حول الدين والمذهب والمعتقد ، وأنا الذي تربيتُ في بيتٍ أزهريٍّ لأب كان مستنيرًا وقارئًا وصاحب خطٍّ مدهشٍ ، ورثتُه عنه أنا وشقيقي الأكبر محمد ، وسلكتُ – في حياته – الطريق الصوفي ، حيث كانت الطريقة الشاذلية هي الأكثر شُهرةً في القرية ، و كانت الحضرة تُقام في المسجد يصاحبها عودٌ يعزف عليه أحد أبناء القرية اسمه وهبة عبد الغني و كان معنا في الطريق الصوفي الشاذلي .
ولو كان فعل العزف في قبلة المسجد قد حدث في أيامنا هذه لكُسِر عودُه وأُحرِق ، وقُتل وهبة عبد الغني ومُثِّل بجسده وأُحرق جسده ونُثِر رماده في النيل .
وإذا كانت مصر كلها ( ومعها الحجاز ) في العصر الفاطمي شيعيَّةً (ضمن فرعها الإسماعيلي) ، ثم تحولت كلها بعد انهيار الدولة الفاطمية إلى سنيَّة ، وقد فتح الفاطميون مصر سنة 358 هجرية – 969ميلادية ، وأسَّسوا مدينة القاهرة شمال الفسطاط ، وجعلوها عاصمتهم ، فأصبحت مصر المركز الروحيَّ والثقافيَّ والسياسيَّ للدولة، وبقيت كذلك حتّى انهيارها ، واستمرَّت الدولة الفاطميَّة تُنازع حتَّى سنة 1171ميلادية ، عندما استقلَّ صلاح الدين الأيوبي (532 – 589 هـجرية / 1138 – 1193 ميلادية ) بمصر بعد وفاة آخر الخُلفاء الفاطميين أبي مُحمَّد عبدُ الله العاضد لدين الله (1149 – 1171 ميلادية ) ، وأزال سُلطتهم الاسميَّة بعد أن كانت سُلطتهم الفعليَّة قد زالت مُنذُ عهد الوزير بدر الدين الجمالي ( 1015 – 1094ميلادية ) .
وما زال المصريون أكثر شعوب العالم الإسلامي احتفاءً واحتفالا بآل بيت النبي محمد ، وأظن أن ملايين من المصريين قد زاروا مسجد الحُسيْن ، وصلُّوا فيه إنْ لم تكن مرات كثيرة في حياتهم ، فعلى الأقل مرة واحدة .
ومن ثم فليس غريبًا وأنا في قلب بابل الأثرية أن أطلب من صديقي وأخي الشاعر الدكتور علي الشلاه مدير شبكة الإعلام العراقية ومدير مهرجان بابل الدولي للثقافات والفنون أن أزور كربلاء بصحبة الصديقين الشاعر الدكتور فارس خضر والكاتب الروائي أحمد أبو خنيجر ، وكنا بمعية الدكتور صادق الطريحي وزيد الشلاه .
وكربلاء – التي سكنها الآشوريون – وهي في لغتهم تعني (حرم الله) ، لم أرها إلا في مارس 2017 ميلادية ، حيث اقتطعت يومًا لزيارتها من أيام مشاركتي كشاعرٍ في مهرجان بابل الدولي للثقافات والفنون .
و«كربلاء هي الموضع الذي قُتل فيه الحسين بن علي (…) في طرف البرية عند الكوفة ، كما يذكر ياقوت الحموي (574 – 626 هـجرية / 1179 – 1229 ميلادية )
في كتابه ” مُعجم البلدان ” ، وقد أُريق على تربتها دم سبط النبي محمد وأهل بيتـه ، (كان مع الحسين خمسة من إخوته وابنه ، وستة عشر من بني هاشم وآخرون، وكان عددهم قرابة المئة ) في واقعـة الطف المعروفة يوم الاثنين العاشر من شهر محرم سنة 61 هجرية – 12من أكتوبر 680ميلادية .
وكربلاء ” … موضع كرب وبلاء، ههنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا “.. وهو قول يُنسب إلى الحُسيْن . ويُنسب أيضًا لعائشة عن النبي محمد ” يُقتل الحُسيْن في أرض بابل ” ، كما يُشاع أن ” جبريل أتى الرسول، وأخبره بمقتل الحُسيْن في أرض الطف، الأمر الذي أبكى الرسول وأحزنه ” – كأن الرسول علم بأمر القتل قبل وقوعه عبر الوحي – .
وكأغلب أهل مصر أرتاح كثيرًا عندما أذهب إلى منطقة الحُسين في القاهرة ، ولي فيها أصدقاء كثيرون ، وكنت أذهب إليها بصحبة جمال الغيطاني (9 من مايو 1945 –18 من أكتوبر 2015ميلادية ) مرةً ، وعلي درويش مرةً ثانية ، وبالطبع مع كثيرين من الأصدقاء ، حتى لو لم أدخل المسجد ، وذلك منذ تخرجي في قسم الصحافة بكلية الآداب سوهاج جامعة أسيوط وقتذاك سنة 1983 ميلادية ، وسكنِي القاهرة ، وعملي في جريدة الأهرام ، ولا أدري لماذا يخاف بعض الناس من الحُسين وهو ميت منذ ألف وأربعمئة عام ، ويخافون من كربلاء ” الأسيرة ” ، وهي لا تطلب سوى السلام والمحبة ، فأهل الوهابية ينفون وجود رأس الحُسيْن في القاهرة ، وأنها مدفونة في أرضهم ، ويُحرِّمون زيارات أهل البيت في مصر وسورية والعراق ، و لديهم كُرهٌ شديد ، وليس مجرد حساسية مفرطة من حُب الحُسيْن وأهل بيت رسول الله ، وصار يعدُّون حب آل البيت جريمةً وإثمًا لا يُغتَفر ، وأن من يبدي تعاطفا أو حُبًّا جارفًا يكون قد خرج على الصراط المستقيم الذي يحدِّدونه هم باعتبارهم أصحاب التوكيل الوحيد للدين والله معًا .
كأن هذه الزيارات تتنافى مع الحج والعمرة ، ولايريد الوهابيون ومن والاهم أن لا تكون الزيارات سوى لأرضٍ واحدةٍ ، وهذا عندي لا يدخل إلا في تنافس ” البيزنس الديني ” بشكل أساسيٍّ ، قبل أن يكون اختلافًا في المذهب ، أو الانتماء إلى جماعات دينية راديكالية متصارعة ومتطاحنة .
فالأزهر لم يرض عن عبد الرحمن الشرقاوي (1920 – 1987ميلادية ) صاحب مسرحيتيْ ” الحُسيْن شهيدا ” و” الحُسيْن ثائرا” ، وقد مات من دون أن يتحقَّق حلمه وتُعرض المسرحية ، بل صار من الصعب أن تجد عمله هذا في المكتبات .
الحسين حفيد رسول الله ، و” سيد شباب أهل الجنة ” كما قال جده النبي محمد ، لا يهم معتقد ودين من يحبه ، فهو عندي وعند من قرأوا سيرته ، ثائرٌ ضد الهرقلية على حد قول عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (توفي سنة 53 هـجرية / 673ميلادية ) : ( كُلَّمَا مَاتَ هِرَقْلُ كَانَ هِرَقْلُ مَكَانَهُ ، مَا لأَبِي بَكْرٍ لَمْ يَسْتَخْلِفْنِي ؟ وَمَا لِعُمَرَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ عَبْدَ اللَّهِ ؟) ، وضد توريث الحُكم ، فأعلن أنه ضد ولاية العهد ، بعد أن عيَّن معاوية ابنه يزيد وليا للعهد ، ومنذ ذلك التاريخ دبت الفرقة بين المسلمين ، وكثر القتل ، وتعدَّد الاغتيال ، ولايهم المغدور إن كان مسلمًا عاديًّا أو صحابيًّا أو ابنًا لصحابيٍّ ، أو تابعًا لرسول الله ، أو من أهل بيت الرسول .
وما كربلاء التي زرتُها إلا الشاهد الماثل على مشاهد مقتل الحُسين والذين معه ، وسأقول مع عبد الرحمن الشرقاوي الذي كتب مسرحيتيه : ( … أحب الحسين ، ذلك الحب الحزين ، الذي يخالطه أغلب الإعجاب والإكبار والشجن ويثير في النفس أسى غامضًا وحنينًا إلى العدل والحرية والإخاء وأحلام الإخلاص ).