ليس المهم أن تعصم نفسك من الخطأ ، ولكنَّ الأهم أن تعصم ذهنك من الخطأ ؛ لأنَّ خطأ الذهن أفدح وأفضح ، إذا ما كنتَ من أهل الفقه ، أو من المشتغلين بالدين عمومًا .
فلو حدَّد المرء ألفاظه ، وراجع ما يصدر عنه من كلام ، ما قامت حروب ، ولا ماتت لغات ، ولا اندثرت حضارات ، ولا اختفت بلدان ، ولا سقطت خلافات ، ولا تلاشت إمبراطوريات .
لأن الخلاف لا الاختلاف هو – وحده – ما يجلب الضعف ، ويخلق الفرقة ، ويبث الشتات في الأمة الواحدة ، ويوم انقسمت دولة الأندلس إلى طوائف ، وتحارَبَ ملوك إماراتها ، سقطت مدنها الواحدة تلو الأخرى ، وهو الدرس الذي لا نريد أن نعيه ونفقهه جيدًا ، ونضعه مثالا أمام أعيننا ؛ حتى لا نقع في الخطأ نفسه ونكرِّره ، ولكن يبدو أنها عادتنا نحن العرب ولن نشتريها من أحدٍ ، في أننا نحب أن نُلدغ من ” الجُحر” نفسه مرات ، وليس مرتين فقط .
فلو أن شيوخنا نهجوا نهجًا إسلاميًّا حقًّا ، وتنحُّوا عن الحُكم على من يخالفونهم بالتكفير ، لعمَّت الحرية ، واستقرت أسس الحوار والجدل ، ولتم التعامل على من يخطىء في اجتهاده على أنه مُجرَّد خطأ وليس صوابًا ، من دون اتهامه بالتكفير والزندقة والخروج من المِلَّة ، لأننا بالمنطق نستطيع أن ندرك الصانع لهذا العالم كما يقول ابن رشد ، ولذا لا تُكفِّر فكرةً لم ترُقْ لك ، أو لكونها لم تأت على لسان من سبقوك من الأسلاف الصالحين ، لأن ما جاء به الفقهاء والأئمة وسواهم ممن اشتغل بالدين ليس نُصوصًا مقدَّسة ، ينبغي الحفاظ عليها ، وعدم المساس بها ، أو مناقشتها أو الاختلاف معها ومُساءلتها معرفيًّا ومنطقيًّا .
وهناك عدد كبير من المشتغلين بالدين مُقلِّدون واتباعيون ، مهمتهم في الحياة الدنيا إعادة إنتاج ما جاء به الأسبقون من دون تجديده ، أو حتى تحريره وصياغته وتقديمه في شكلٍ آخر ، من دون أن يضيفوا أو يُغيِّروا شيئًا يُذكر ، أو يُسهموا برؤيةٍ مغايرة ، إذ أن أرواحهم لا تعرف الإبداع ، حيث سجنت نفسها في سجون الاتباع والمحاكاة .
فمثلا عندما يحكم ” الإمام ” أبو حامد الغزالي ( 1059/1111 ميلادية ) على الفارابي وابن سينا بالكُفر ، فما الذي ننتظره – نحن – من شيوخ هذا الزمان ، الذين يُكفِّرون الشعراء والفلاسفة والمُفكِّرين من المُجتهدين ، وينفون عنهم إيمانهم ، ويرمونهم بالزندقة ، والخروج من المِلَّة ؟
فالغزالي يصف الفلاسفة في كتابه الأشهر ” تهافت الفلاسفة ” بأنهم ” شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكُوسة والآراء المعكُوسة…لا يعدون إلا من زُمرة الشياطين الأشرار”.
ويقول في كتابه الأشهر أيضًا ” المنقذ من الضلال ” لقد ” ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة…حتى اطلعت على ما فيه من خداعٍ وتلبيس” .
وكأنَّ ابن سينا (370 هـجرية – 980ميلادية / 427 هـجرية 1037ميلادية ) كان يدرك أنه سيأتي من بعده من يتهمه في دينه ، فقال قولته التي أراها ردًّا من قبر ابن سينا على الغزالي : ” بلينا بقومٍ يظنون أن الله لم يهد سواهم ” ، وكان الغزالي قد كفَّره في كتابه الأشهر ” المنقذ من الضلال ” ، وكفَّره أيضًا ابن كثير في كتابه ” البداية والنهاية ” ، و ابن العماد الحنبلي في كتابه ” شذرات الذهب ” .
فلقد كان ابن سينا يؤمن بأنَّ ” العقل البشري قوةٌ من قوى النفس لا يُستهان بها ” ، في وقتٍ أراد فيه مخالفوه من المُعترضين ألا يعملوا عقولهم ، ويسيروا في الأرض التي حرثها الأسبقون عليهم ، يجمعون ويصنِّفون ويرتِّبون ويكتبون الحواشي التي هي مجرد تعليقات على المتون التي أرساها الأولون ، من دون اجتهادٍ أو إعمالٍ للعقل في شؤون الدين والدنيا .
وابن سينا – كما يراه ابن تيمية – ” تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض ” ،
وجاء هذا الرأي في الجزء التاسع من ” مجموع فتاوى ابن تيمية “. وقال ابن الصلاح ( توفي في 25 من ربيع الثاني سنة 643 للهجرة – 19من سبتمبر 1245 ميلادية ) في فتاواه : ( كان شيطانًا من شياطين الإنس) وقال الكشميري (1292 – 1352هـجرية ) في ” فيض الباري ” : ( ابن سينا الملحد الزنديق القرمطي غدا مدى شرك الردى وشريطة الشيطان) .
وفي ” اللسان ” لابن حجر (773 – 852 هـجرية ) ، نقل عبارة الذهبي (673 / 748 هـجرية – 1274 / 1348ميلادية )
وقال ( لا رضـي اللـه عنه). قال ابن القيم الجوزية (691 – 751 هـجرية / 1292 – 1349ميلادية ) عنه : ( فالرجل معطل مشرك جاحد للنبوات والمعاد لا مبدأ عنده ولا معاد ولا رسول ولا كتاب). وقال في موضع آخر ( إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر).
ولعل رأي ابن رشد في كتابه ” تهافت التهافت ” الذي كتبه ردا على كتاب الغزالي ” تهافت الفلاسفة ” الذي أنجزه في القرن الحادي عشر الميلادي حين قال إن أبا حامد الغزالي ” لم يكن يطلب الحق وإنما أراد مداهنة أهل زمانه ” ، هو أبلغ ردٍّ يمكن أن ينطبق على كثير من الفقهاء والعلماء الذين يعادون العقل والعلم ، ويكرهون المنطق والفلسفة والفلاسفة ، مع أن أبا حامد الغزالي نفسه سيدخل المنطق والفلسفة والتصوف ويطلق قوله الشهير ” من لا معرفة له بالمنطق لا يُوثق بعلمه ” .
ولعلنا نلاحظ أن كل الذين يرفعون السلاح في وجه المسلمين وغير المسلمين ، هم من الذين تبنُّوا أفكار ابن تيمية (661 -728 هـجرية / 1263-1328ميلادية ) ، الذي بدوره تبنَّى أفكار الغلاة من الحنابلة ، فكفَّر الصوفيين والفلاسفة ، وعددًا من الفرق المسلمة كالأشاعرة والشيعة والمعتزلة ، إنه مُمثل التطرُّف والتعصُّب والتشدُّد والتكفير والتحريم والاتهام بالزندقة والمرُوق .
ولو عدنا إلى الكتب القديمة التي تُدرَّس في المعاهد والكليات الأزهرية لرأينا كيف أنها مملوءة بالتهجُّم والتكفير لرموز الأمة الإسلامية الذين نفخر أمام الدنيا بأنهم مسلمون وقد ذكرت هنا أنموذجًا واحدًا هو ابن سينا ، الذي قطِّعت أوصال سمعته ، وطُعن في دينه ، حيث صار على يد أحدهم إمامًا للكافرين الضالين الملحدين ، وهنا تعسُّف واضحٌ في التأويل وقراءة النصوص ، مع فشلٍ في التدليل ، وليس عيبًا أن يستصوب المرء آراء مادام قد رآها خاطئة ، ولكن العيب هو استهجان ما هو صواب لمجرَّد أنه جاهل بهذا الصواب ، الذي لم يستطع عقله أن يدركه .
ومن يأخذ بظاهر النص ( الشيء ، الإنسان ) دائمًا ما يصل إلى نتائج محمولة على يد الغلط ، ويقع في الخطأ ، وتزل قدماه في الطريق ، وتنزلقان في وحل المُغالاة ، حيث يُعطِّل عقله ، ويحبس المياه عن روحه ؛ فتفسد زراعتها .
*ahmad_shahawy@hotmail.com