1 ـ
مابين ديوانين ، أحبُّ أن ألعبَ في النثرِ ، كأنَّ النثرَ لي استراحةٌ يطيبُ لي المقام فيها ، ولقد عوَّدتُ نفسي ذلك منذ عام 1990 .
وفي رأيي أن النثرَ يكشفُ الشَّاعرَ ، لأنَّ من ينثرُ روحَهُ ، لابد أن يكونَ قادمًا من بحرِ المعرفةِ ، وخارجًا من أفرانِ التجاربِ ، التي لايصيبُها صقيعٌ ، ومن نثَرَ كأنهُ يكتبُ شعرًا عاشَ ، ولاحظتُ أنَّ الكبارَ من الشُّعراءِ في العالم هُم ناثرون كبارٌ أيضًا ، ومحمود درويش ليس ببعيدٍ عن نظري ، وهناك شعراء كثيرون لم يختبرهم النثرُ ، وقد ترك لنا التراثُ العربيُّ مفاضلاتٍ مُهمةً عن فضلِ الشِّعرِ على النثرِ أو فضل النثرِ على الشِّعر ، هذه المقارنات قد أغنَتِ المدونةَ العربيةَ التراثيةَ ، وصارت مرجعًا لافتًا ومُهمًا نعودُ إليه ، ونَثْري لايفلتُ من الشِّعر ، بل الشعر هو من يسمحُ له أن يعومَ بدلا عنه في مائي ، كأنَّهُ يدعُني أحتشدُ وأتدرَّبُ مع النثرِ ، لأعودَ إليه متفرغًا لعبادته ، إذا لم أنس يومًا في حياتي ، عبيد الشعر الذين وهبوا حيواتهم للشِّعر دون مطمعٍ في شيء.
2 ـ
كلُّ ما يثقلُ الكاهل لابد من حذفهِ ، ومن حذَفَ حَذَق ، ومن حذقَ وصَلَ ، مثلما قال شيوخنا : “ من ذاقَ عرفَ “، ومن شَافَ غرَفَ ، ومن غرَفَ اختار مما يغرفُ ، والكتابة كالبشرِ منها ما يبقى يؤسِّسُ ، ومنها ما يبقى يُؤرِّقُ وينحر في جدران الرُّوح ، وما أفعله يفعلهُ كثيرون في العالم ، لكن ثقافتنا علَّمتنا أنَّ كلَّ ما يُكتبُ يُنشرُ ، مع أنَّ المكتوبَ هذا ، قد يكونُ توطئةً من الرُّوح لكتابةِ عملٍ آتٍ ، أو مقدمةً أو مسودةً أو محاولةً أخفقَ الشاعرُ في إتمامها ، ولذا لا أحذفُ ما يبقى فيَّ ، وكل زائدٍ مصيره الحذف ، وإلا يصيرُ الشاعرُ جامعًا أعدادا من الكتب دون تصفيةٍ وغربلةٍ وتنقيةٍ .
3 ـ كلنا عيالٌ على اللغةِ والشعرِ ،
في الكتابةِ لا أحد يكبرُ ، يبقى الشاعرُ يتعلمُ حتى النفَس الأخير ، التجاربُ تُعلِّم ، والكتبُ ، وكلُّ ما يُصادفُ الشاعر ، يكتبُ ويحذفُ ، ينحتُ ويمحو ، فلا يوجد نصٌّ نهائيٌّ وأخيرٌ أمام الشاعر ، وما أكتبه حول وفي الشعرِ هو تذْكِرةٌ لنفسي أولا ، درسٌ لي ، فأنا مهجوسٌ بالشعر داخل الشعر ، وتلك سمةٌ موجودةٌ في تراثنا الشعري العربي ، فلم أر شعرًا في العالم كالشعر العربيِّ انشغل شعراؤه بكيفيةِ الكتابةِ في متنِ النص نفسه ، والأمثلة أكثر من أن تُحصى ، وهأنا أعلِّمُ نفسي ، وأستفيدُ من أغلاطي ، وأدركتُ منذ الطفولة أن الشِّعرَ صعبٌ ، وعلى الشاعر أن يسعى طوالَ وقته نحو روحه ، ليحفر أرضها ونحو المعرفة التي هي على عدد أنفاسِ البشر والنجوم معا .
4 ـ
لدي حلمٌ أن أكتبَ دونَ كلمةٍ واحدةٍ ، وأن يكونَ الضوءُ هو المادة التي أشكِّلُ بها ، وأن أنجحَ في التعبير عما يحيا داخلي ، فباطني مُزدحمٌ كبركانٍ ، يريد أن يخرجَ كل يوم ، وما كتبتهُ وأكتبُهُ لا يشكِّلُ نصفًا في المئةِ مما يحملُ القلبُ .
5 ـ
من لم ينصهر لم يذُبْ ، وظل روحًا تائهةً ، لا تعرفُ لها مكانًا في التعبير ، والألم هو شيخ الكتابةِ الذي لا يشيخُ ، ولا ينطقُ عن الهواءِ بل الهوى ، الهوى الذي لا منطقَ له ، ولا برنامج مكتوبا سلفا .
6 ـ
صرتُ منذ فترةٍ زاهدًا ومتقشفًا ومعتزلا ، ومختزلا ومستغنيًا أكثر مما كنتُ عليه ، صار الحزنُ قِبلتي ، ولم أعُد أحبُّ مبارحةَ بيتي ومنطقة المعادي حيث أسكنُ ، لا أخرجُ إلا للضرورة ولزيارة أصدقائي من بائعي التحف والأنتيك والجواهرجية ، حيث أكونُ معهم مكتملا وصافيا ، وأرى جديدهم وقديمهم ، الذي هو شعرٌ صرفٌ صافٍ، وصارَ السفرُ متعتي ، إذ أرى وقع شعري في اللغات الأخرى .
7 ـ
في الفن لا تتبعْ قانونًا ولا منطقًا
اذهبْ نحو ذاتك لتراك هناكَ ، وحيدًا وكثيرًا ومعتزلا صامتًا ، لاتكلِّمُ الناسَ إلا منْ وراء فنِّكَ أو من قلب فنِّكَ
ولتكنْ لغتكُ ذاتك
ولونُك لونُ رُوحك ، حيثُ تميلُ وتذهبُ نحو ما تختاره
فلا لون واحد للفن
ولا توجد قصيدةٌ واحدةٌ أو لوحةٌ واحدةٌ
حتى الشاعر له أكثرُ من ظلٍّ حيث يكونُ
أنا أسكنُ لحظتي ، أكتبها لونًا بيدِ اللغة .
8 ـ
أسوأ ما يقابلني في هذه الحياة
أن يُفتي في أمرِ شِعْري شخصٌ لم يقرأ لي كتابًا واحدًا
والأسوأ منه أن أكثرَ كُتابنا وشعرائنا يعيشونَ على ” ثقافة السماع “
والأسوأ منهما أن يكتبَ المرءُ من ” على لحم عقله وروحه” ،
وأن يموتَ وفي مكتبةِ عقلهِ على الأكثر عشرة كتب ليست من الأمهات المؤسِّسة والمُؤثرة . كأنه لم يعرف أن الإنسانَ لايشبعُ من
مُطالعة الكتبِ، لأنه إذا ما رأى كتاباً لم يره من ذي قبل فكأنّه وقع على كنزٍ، إذ القراءة تُخبرُ عن حال من يقرأ ، وأن من يقتني كتابا كأنه اقتنى فرحا يبقى داخله حتى الموت .
9 ـ
أنا ابنُ الحيْرةِ ، زادي القلقُ ، وطريقي هو الشكُّ في ذاتي ، والبحار التي تطلُّ على رُوحي ملآنة بالحبر الذي منه أرتوي.
10 ـ
إن أكثرَ شيءٍ فعلته في طفولتي هو قراءة الكتب ، فبقدر انغماسي في تلك السن في
مطاردةِ الثعابين في قريتي ، وتربية دُود القز ، وصعود أشجار التوت ، وملء بطني يوميًّا بأكبر كم يُمكنُ أن يتخيله المرء في هذه السن من ثمار التوت ، فقد كنتُ ومازلتُ خبيرًا في أنواع التوتِ ، بل كنتُ أعرفُ أشجارَ التوتِ في قريتي واحدةً واحدةً ، صحيح أنها اختفت الآن ، ولم يَعُد أهلُ القرية يحتفونَ بهذه الشجرة المباركة ، مثلما لم يعودوا يحتفلون بعاداتٍ كثيرةٍ كانت تُمارس وقتذاك ، وأبرزها إقامة الموالد ، ولكن تظل القراءةُ المبكرةُ لطفلٍ ولد على سريرِ الحُرُوفِ ، كانت الأبجديةُ شرابه ، والقرآنُ مِصباحه ، حيث لم تكن الكهرباء قد دخلت قريتنا بعد .
أنا جامعُ ذراتٍ ، مثلما أنا جامعُ تُوتٍ ، لا أجمعُ إلا مايصلح للأكل ، ودومًا كنتُ أقولُ لنفسي لايمكنُ أن أكونَ سببًا في إصابة قارئي بتلبكٍ معويٍّ ، ولذا حاولتُ قدر الإمكان أن تكونَ ذرَّاتي الطبيعية خاليةً من الشوائب ، شفيفةً ونظيفةَ ، ولكن ليست منتوفة الزغب ، لأن نتفَ الشيء جيدًا قد يجعله في حلةٍ رسميةٍ لايمكنُ إدراكها ، ولطالما أرعبني الشعراءُ المَنتُوفُون ، إذ أعولُ كثيرًا على ماهو تلقائيٌّ وعفويٌّ وفطريٌّ ، حيث يرسم قدر الطبيعة خطوطًا ما كانت لفرشاتنا أن تصلَ إليها أو تفكرَ بها .