كُلُّ قراءةٍ تفتحُ أعيننا على آخر جديدٍ، إذْ لا تُوجدُ قراءةٌ سيئةٌ، فالسيئ فقط هو الرقيبُ الذي يرفضُ المُطلقَ في الدينِ والسياسةِ والآدابِ والفنُونِ، مُشترطًا سيطرةً غاشمةَ على كلِّ حرفٍ يخطُّهُ أي كاتبٍ.
فلم أسمع عن كتَابٍ يُفسِدُ الأخلاقَ، أو يدفعُ لصًّا لأنْ يسرقَ، أو قاتلا لأن يرتكبَ جريمةَ قتلٍ، ولا يوجدُ كتابٌ يحرِّضُ على الحقدِ والحسدِ وفعلِ الشرِّ، لأنَّ للقارئ ذوقًا، وعقلا يُفرِزُ به ويُصفِّى، ويُفرِّقُ ما بين الخبيث والمُفيد.
الكتابُ لا يُؤذِى، ولا يضُرُّ، ولا يُنقِصُ العقلَ، بل يفتحُ نوافذَهُ على آفاقٍ أخرى، ولا يضربُ الرُّوحَ بل يُطلقُها نحو إشراقاتها؛ لأنْ ترى وتعرفَ وتُحلِّلَ وتزنَ وتُفاضِلَ، ولكن الذي يُؤذِى هو المجازرُ التي تُرتكبُ باسم الدينِ.
ولا يُمكنُ لمثلي أن ينسى مذبحةَ الشيعة المصريين، التي وقعت تحت بصرِ محمد مرسى «حاكم مصر لعامٍ باسم الإخوان، ومن والاهم، ومن أيَّدهم، والذين تألفتْ قلوبهم؛ لتأييد أفعاله وسلوكياته»، والذي هو ومن معه من الإخوانِ والسلفيين والجماعاتِ الإسلاميةِ المُتشددة، لم يُعلِّقوا على تلك المجزرةِ، التي تمَّتْ بمباركةِ رُؤُوس الإسلامِ السياسي؛ انتصارًا للدينِ؛ وحمايةً للأخلاقِ، إذْ اعتبروها من أعمالِ الفداءِ والبُطُولةِ، وقد وقعتْ عقب تحريضٍ صريحٍ ومُباشرٍ ومُتكرِّرٍ ومقصُودٍ من «شيوخٍ ملأتهم الشُّروخ» هم مشاهير في المُجتمع، وهؤلاء -للأسف- هم الذين يُوصون بالمنعِ والمُصادرةِ طَوال الوقت، أما القتل نيابةً عن الله، فهو في عقيدتهم المُستحدثة مُباحٌ ومُتاحٌ وسَداحٌ، بل واجبٌ على كلِّ مسلمٍ غيُورٍ على دينهِ.
ولأنَّنا هنا في مصر «على مستوى الدستُور والقانون» نتأسَّى بفرنسا، فقد قرأتُ كثيرًا حول تاريخِ الرقابةِ على المطبوعاتِ في فرنسا، وهو تاريخٌ حافلٌ بالجرائمِ والقتلِ والإقصاءِ والنفي خلال خمسمائة عامٍ من الإتلافِ والمُصادرة بحجةِ حمايةِ المُجتمعِ، غير أنه في الأصلِ حمايةٌ للإمبراطورِ وسلطاته وحاشيته.
حيث إنَّ الرقابةَ هي إحدى الخطواتِ التي تُؤسِّسُ بنعومةٍ وتحدٍّ صارخٍ في الوقتِ نفسه للديكتاتورية.
فمنذ قرُونٍ مضتْ، والكلمة تُواجهُ القمعَ في العالم، وحرية التعبير «الكلام» تتعرَّضُ إلى مُضايقاتٍ تصلُ إلى حدِّ قطعِ الرقابِ، فكم من مرَّاتٍ عديدةٍ أدَّت الرقابةُ إلى قصِّ أو جزِّ الرقبةِ، فمنذ بدء تاريخِ دورانِ المطبعةِ وحتَّى يومنا هذا، وحرية التعبير مُعلَّقةٌ على حبلٍ يتأرجحُ بين الرقابةِ والرقبةِ.
ولم يستطع أحدٌ، خصُوصًا في بلداننا، أن يفكَّ الرقبةَ من مشنقةِ الرقابةِ.
فبين المُراقِبِ والمُرَاقَبِ مُنِعتْ وصُودرتْ عشراتُ الآلاف من الكُتبِ، واتُهم أصحابُها بالكُفرِ والزندقةِ والهرطقةِ والخُرُوجِ على الدينِ، وفى أبسطِ الأحوالِ الخُرُوجِ على أعرافِ وتقاليدِ المُجتمع.
لقد عاش الكِتابُ الذي له طَابَعٌ خاصٌ في التفكيرِ والرؤيةِ والاختلافِ عن السَّائدِ والشَّائعِ والمُتداولِ في الأغلبِ بين رقاباتٍ دينيةٍ وأخرى سياسيةٍ، كأنَّ الأسيادَ المُرَاقبينَ لا يُريدُون أن يكونَ هناك أحدٌ خارج المنظُومةِ التي يُحدِّدُها النظامُ سواء أكان دينيًّا أم سياسيًّا.
إنَّ قمعَ الحرياتِ الفكريةِ آتٍ من عدم الإيمانِ بقيمةِ الثقافةِ والأدبِ والفكرِ في حياةِ تطورِ الشُّعُوبِ وتقدمها، إذْ فرْض الرقابةِ المُشدَّدةِ ينتُجُ عن خوفِ المُرَاقِبِ من كشفِ أمرِهِ، وهتك سترِهِ، وتعريفِ الرأي العامِ بما يفعلُه في السرِّ أو في الجهْرِ، تحت غطاءٍ غامضٍ فَضْفَاضٍ يُؤثِّرُ سلبًا على حياةِ الناسِ.
فقد رأينا في شوارعِ القاهرةِ حرْقَ الكُتبِ المُقدَّسةِ وغير المُقدَّسةِ من أناسٍ أعرفُ بعضهم شخصيًّا، وهم بعيدونَ كل البُعدِ عن الدينِ، وعن الثقافةِ، ينعمُونَ طَوالِ أعمارهم في الجهلِ، لكنَّهُم استغلوا التيارَ الديني، وركبُوا موجتَهُ العاليةَ، وغرقوا بالطبع معه، لمَّا اعتدل الميزانُ، ولو استمر الأمرُ قليلا، كنا سنرى إقامة حدِّ الحرْقِ؛ بتهمةِ الزندقةِ في ميادين مصر المحرُوثة والمحرُوقة، والتي لم تعُد محرُوسةً على أيدي تيارٍ أراد أن يسُودَ، فجمَعَ المُتناقضينَ والمُتنافرينَ من المُتشدِّدين والخوارجِ تحت لوائِهِ.
والذي يُراقبُ ويقمعُ الحريات، يتحجَّجُ طَوال الوقتِ بضرورة «الحفاظِ على الأخلاقِ والآدابِ العامَّةِ وحمايةِ الأطفالِ والشبابِ من الكُتبِ الفاسدةِ» والمُضلِّلةِ والمُخرِّفةِ والخارجةِ على صحيحِ الدين.
وليس لأحدٍ في بلدٍ كهذا أن «يكُونَ وصيًّا على عقُولِ الناسِ وأفكارِهم وآرائِهم واختياراتِهم وتوجهاتِهم».
إنَّ مُحارَبَةَ الكُتبِ وقمعَها كان ولا يزالُ يُؤدِّى إلى السَّجنِ بالأشغالِ المُؤبدةِ، أو الإعدامِ بقصِّ وجزِّ أو نحْرِ الرقبة، فلا أحدَ ينسى أن القُضاةَ في فرنسا خلال القرن الثامن عشر الميلادي كانوا يحرقُون كُتبًا مُزيَّفةً، ويحتفظونَ لأنفسهم بالنسخِ الأصليَّةِ غير المرضِى عنها، والتي أدينتْ بالحرقِ، وربما معها أصحابها، مثلما كان مُتبعًا وما زال الأمر موجُودًا، ولكن في بلداننا، وليس في أوروبا كما السابق.
فالكتاب يُدانُ من وجهة نظر أعدائه؛ لأنه يُضرُّ بالدينِ أو الدولةِ أو المُجتمعِ، والهدف من منعه ليس فقط بسبب الاختلافِ حوله، ولكنْ لحمايةِ الأخلاقِ والأعرافِ، فأعداء الكُتبِ عندما يختلفُونَ معك، يصفُونَ الكتابَ بأوصافٍ عدَّة منها أنَّها كتبٌ شريرةٌ أو سيئةٌ.
نعم الرقابة شبيهةٌ بالشيطانِ منذ عرفَ العالمُ تعبيرَ «رقابة الكتب» بدءًا من سنة 1623، والضعيفُ أو عديمُ الثقةِ في نفسِهِ، وفى مشرُوعِه، هو من يُمارسُ رقابةً ما سواء أكانت جزئيةً أم كليةً.
والرقابة شرٌّ، لا أحدَ يستفيدُ منه، ولا حتى الذي يمارسُها، ففرنسا -مثلا- وقفتْ ضد ديوان «أزهار الشر» للشاعر شارل بودلير، ومع ذلك لم تستطعْ أن تمنعَ أن يكونَ هذا الكتابُ الشعري هو الأولُ لديها، وفى العالمِ، من حيث النشرِ والترجمةِ إلى اللغاتِ الأخرى، لكنَّهُ جلبَ العارَ لقضاةِ فرنسا، وحُمَاة الفضيلة فيها.
والرقابةُ سُلطةٌ أخرى، تُضافُ إلى السلطاتِ الموجُودةِ في البلادِ، تشاركُ فيها جهاتٌ عديدةٌ دينيةٌ وسياسيةٌ ومجتمعيةٌ في الأغلب، وتُمارسُ وصايتَها على الشَّعْب.
إنَّ الرقابةَ ليستْ قتلا رحيمًا، ولكن حقًّا هل يُوجد قتلٌ باسم الرَّحمةِ؟ أم أننا عندما يُعيينا الشيء، نبحثُ في البلاغةِ والمجازِ عن اسمٍ لهُ.
مرَّةً سمعتُ شيخًا مُتحدِّثًا باسم الدينِ يقُولُ: إنَّ المطبعةَ تُهدِّدُ النظامَ الاجتماعي والأخلاقَ والدينَ، ويراها سلفي آخر أنَّها أسوأ من الدعارةِ، مع أنني أعرفُ أنه يطمحُ لأن ينْشُرَ « مقالاته» في الصُّحفِ.
وفى نهاية المطافِ من يقرأ تاريخَ العالم يعرف أنَّ الرقابةَ قد فشلتْ أن تطفئ نُورَ الحُريةِ؛ لأنَّها بنتُ الظلامِ والخوفِ.