“يوسف “سورة عابرة للعوالم
فيها وقائع سحرية وخيال لامحدود
مات يوسف وهو ابن مئة وعشرين سنة.
وَدَخَلَ يعقوبُ مصرَ في مُلْكِ ابنه يوسف وهو ابن مئة وثمانين سنة.
وماتت شارخ بنت شيرا بن يعقوب عن ألفٍ وستمائِة سنة وأدركها سُلَيْمان بن داوود فتزوَّجَها، وكانت كُلَّما بلغت الخمسين نقصت عشرين عامًا، لتصيرَ شابةً في الثلاثين؛ لأنَّها دَلَّت موسى على مكان قبر يوسف في مصر، لتُنْقَل عِظَامُهُ إلى الأرض المقدَّسة فلسطين، وكانت مكافأتها أن تَظَلَّ شابةً حتَّى الموت، فهي المرأةُ الوحيدةُ في مصر التي كانت تعلم أين دُفِنَ يوسف.
كُلَّما قرأتُ سُورة “يوسف” امتلأتُ تأويلاً، فَسُورُهَا فُسِّرَت على أكثر من وَجْهٍ، فقد اختلف المفَسِّرونَ والشرَّاحُ والمؤِّولُون والفقهاءُ والأئمةُ والعلماء في شرحها، دون تَشَدُّدٍ، أو قَهْرٍ، أو امتلاكٍ للحقيقةِ المطلقةِ.
هذه السُّورة تُعيدني إلى رحابة الاختلافِ، وفقهِ التعدُّدِ، وتنوَّعِ الرَّؤى، وربَّما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أقرأ “يوسف” الآَنَ من مَنْظُورٍ لُغَويٍّ وأدبيٍّ وصوفيٍّ.
فإذا كانت “يوسف” من أشهر سور القرآن، لتداولها في الكتابات، وذيوعها في مناهج التعليم، والاستفادة منها في أعمالٍ دراميةٍ، وشعريةٍ، وروائيةٍ، فهي أيضًا معروفةٌ لدى أهل الديانات الأخرى، هل يمكن أَنْ أَقُولَ عنها إنَّها سورةٌ عابرةٌ للعوالم والبشر والأزمنة والأمكنة، ومن ثم سيكون هُناك مُشْترَكٌ بين من يتلقًَّاها.
فما حملته هذه السُّورةُ من وقائع سحريةٍ، وخيالٍ لا محدود، وشطحٍ روحانيٍّ، وتوليدٍ حكائيٍّ، وَحَذْفٍ في الُّلغَةِ، وتصويرٍ للمشهد بجماليةٍ بنائيةٍ نادرةٍ تقومُ على الوجازةِ والتكثيفِ الذي يطمحُ إليه أيُّ شاعرٍ؛ ولذا لجأ إليها الشُّعراء؛ لأنَّها الأقربُ إلى أرواحهم ورؤاهم من حيث التشكيل والتكوين.
أَذْهبُ إلى هذه السُّورةِ دائمًا عبر تجويدها بأصواتٍ بارزةٍ في مدرسةِ تلاوةِ القرآنِ المصريةِ. استطاعت أن تنقلَ لي هذا التراوحَ الَّلافِتَ بين ما هو سرديٌّ وشعريٌّ في “يوسف”.
كَمَا أَنَّ قراءتها في سُطورٍ متتالياتٍ (على طريقة الشِّعْرِ)، أوْ سطورٍ مُدوَّراتٍ (على طريقة القرآن وإن كان الشِّعْر قَدْ أَخَذَهَا من القرآن بعد ذلك شكلاً وَطَرِيَقةً فَنيَّةً، يمنحُ لِمُتَلَقِّيها سماءً جديدةً للتخيُّلِ والصعودِ إلى أَعْلَى نقطة في الُّلغَةِ والمجَازِ والقِصَّةِ.
وهذه السُّورة بالنسبة لشاعرٍ عربيٍّ مِنْ مِصْر، تُشَكِّل أهيمةً خَاصَّةً له، فالقرآنُ يدلُّ على أنَّه لم يأت أهل مصر نبيٌّ قبل مُوسى سوى يوسف. كما أنَّه عَاشَ عُمْرَه في مصر التي جاءها طِفْلاً مُبَاعًا حَتَّى صَارَ فيها مَلِكًا، وما تزال آثارُهُ موجودةً بها، كما أنَّ هُناكَ قرىً وأماكنَ وبحورًا تَحْمِلُ اسْمَهُ، وإذَا كَانَ اسمُ يوسف شائعًا في العربيةِ، فهو أكثر شيوعًا في مِصْرَ.
وَلاَأَظنُّ أَنَّ أحدًا لاَيْعِرِفُ قَدْرًا – ولو يَسيرًا – من سورة يوسف، وإنْ لم يكن يَسْتظهرُها كلَّها، فهو يحفظ آياتٍ منها.
فسورة يوسف – وهي مكيَّة – من أبرز السُّور التي تَتَجَلَّى فيها الفتنُ والمحنُ والشدائدُ والبلاءُ، كمحنة الجبِّ والاسترقاق، والمراودة، والسجن.
وتعدُّ سورة يوسف من أعظم القصص في القرآن، ونلحظ الإيجاز في السَّرد، والشعرية العالية لغةً وبناءً، والاحتفاء بالتشكيل والمجاز، وهذا ما جعل عديد من الشعراء العرب يستلهمونها ويستفيدون منها جماليًّا وفنيًّا، لأن السُّورة بآياتها المئة وإحدى عشرة ذات أسلوبٍ فريدٍ في الُّلغةِ والتعبيرِ والأداءِ البلاغيِّ، كما أنَّها لا تحمل طابع الإنذار والتهديد مثلما نجد سورًا مكيَّةً أخرى، وقديمًا قيل “لايَسْمَع سورة يوسف محزونٌ إلاَّ استراح إليها”.
وهذه السُّورة نزلت على النبيِّ محمد بعد سورة “هود” في وقتٍ رَحَلَتْ فيه زوجُهُ “خديجة” وعمه “أبو طالب”، وأيضًا كان يعاني من الأذى والشدائد، وَسُمِّي ذلك العام “عام الحُزن”.
أي سورة يوسف نزلت أساسًا لتخفيف الآلام عن النبي محمد، وتسريته بقصص السَّابقين المرسلين. وهي تحفل بالعجيب من الأخبار، والغريب من الأنباء، من خلال تقنية الرمز والإيحاء، فنرى طفلاً يتكلم في المهد ليشهدَ ببراءة يوسف من مراودة امرأة العزيز، ونرى سبعةَ أبوابٍ مُغْلَقَةٍ، غلَّقتها امرأةُ العزيز في القصر بعد أن تهيَّأت ليوسف كي يضاجعها، ونحن نعرف ما للرقم سبعة من دلالة مُقَدَّسة في الديانات وحضارات الأمم القديمة.
وقد رأيت في آيات هذه السُّورة بلاغةً فريدةً في الجملة، وإعجاز في الحذف الذي يدلُّ عليه السياق والإيجاز والإشارة والإلماح والرمز.
فنحن أَمَامَ سورةٍ تبدأُ بالحكايةِ في أنها تقصُّ علينا أحسنَ القَصَصِ، فهناك الرؤيا والُّلغة، وهناك مستويان للمجاز، ظاهرٌ وباطنٌ، أي إخفاءٌ وإظهارٌ، ونرى أمكنةً مختلفةً تؤثِّر في وجود الإنسان وكينونته مثل الجُبِّ، بيت العزيز، السجن إضافةً إلى مكانين رئيسيين هما البادية (الصحراء كمكان مفتوح)، والمدينة (مصر- ادخلوا مِصْرَ إنْ شاء الله آمنين).
ويحتلُّ قميص يوسف مَوقعًا خاصًّا في سورة “يوسف”، فهو يُعَبِّر عن دلالاتٍ متعددةٍ، فَنَرَاهُ دليلَ مَوْتٍ كاذبًا، ودليل مراودةٍ كاذبةٍ، ودليلَ صِدْقٍ من عدم مراودة امرأة العزيز عن نفسها، وسببًا لِعَوْدَةِ بصرِ النبي يعقوب، بَعْدَ أن “ابيضّت عيناه من الحُزْنِ” وَفَقَدَ بَصَرَهُ، فَالقَميصُ حَمْلَ رائحة يوسف، والرَّائحة فقط لا تذكِّر، لكنَّها هُنَا تُشْفِي وَتُرْجع البَصَرَ المَفْقُودَ.
نحن أمام دلالةٍ واحدةٍ تتعدَّدُ وتتغيَّرُ، في بنيةٍ لغويةٍ عميقةٍ رَأَى الشُّعَراء أنَّها أقْربُ إلى مزاجهم ولغتهم ورؤاهم، فنجدُ أعمالاً شعريةً عربيةً تعتمدُ في رؤيتها الكلية على سُورةِ يوسف أو أحد دلالاتها: “أحد عَشْرَ كوكبًا” لمحمود درويش، “قِمْصَان يوسف” لشوقي بزيع، “لاَ تُعْرِض عَنْ هَذَا” لأحمد الشّهاوي.
فشخصية يوسف وصفاتُهُ قريبةٌ من نفوس الشُّعراء فهو “الجميل الباهر الجمال، المعشوق العفيف، السجين البرئ، والمعبِّر للرؤيا، والأمين الحفيظ على الأموال”. وقد وَظَّفَها شعراء آخرون مثل محمود سامي البارودي، أحمد شوقي، محمد مهدي الجواهري.
والشاعر لا يقف عند الدلالةِ القرآنيةِ فقط، لكنَّه يتعدَّاها إلى دلالاتٍ وَمَعَانٍ يبتدعها، كُلٌّ حسب مخيلته وطاقته الإبداعية وثقافته، مما يُشَكِّل إضافةً إلى الموروث المقدَّس، لأنَّ النصَّ الشعريَّ ليس موعظةً دينيةً، أو خُطْبةَ جُمْعَةٍ، أو درسًا إصلاحيًّا تربويًّا.
فبالنسبة لي يوسف هو أول نبي سَأَلَ اللهُ الموتَ، ومن إعجاز سُورة يوسف، أن القُرآن عندما يذكر حكَّام مصر القدامى لا يذكرهم إلا بلقب “الفرعون” وذلك في حوالي ستين آية إلاَّ في سورة يوسف، حيث ذكر فيها حاكم مصر بلقب “ملك”، مع أنَّ يوسف عاش في مصر، وَذَكَرَت السُّورة أن حاكم مصر كان لقبه ملكًا وليس فرعونًا. وبقيت هذه الآيات الثلاث (43، 50، 54) إعجازًا قرآنيًّا، حتَّى فك “شامبليون” حجر رشيد وتَعرَّف الكتابةَ الهيروغليفيةَ في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، فتعرَّف العالمُ تاريخَ مصر في مطلع القرن العشرين بشكلٍ دقيقٍ فظهرت المعجزةُ أن حياة يوسف في مصر كانت أيام (الملوك الرعاة: الهكسوس) الذين تغلَّبوا على جيوشِ الفراعنةِ، وظلُّوا في مصر (من 1730 ق.م إلى 1580 ق.م) حتى أخرجهم أحمس الأول وشكَّل الدولة الحديثة “الإمبراطورية”.
لذلك كان القرآنُ دقيقًا، حيث تربَّع على مصر ملوك بدل الفراعنة الذين انحسر حكمهم إلى الصعيد وجعلوا عاصمتهم طيبة.
فيوسف الذي أُعْطِي وأمه ثلث حُسْن خلق الإنسان في الوجه والبياض، كان إذا سار في أزقة مصر، تلألأ وجهه على الجدران كما يتلألأُ الماءُ والشَّمْسُ على الجدران، فكان وجهه مثل البرق، فإذا أتت المرأةُ لحاجةٍ سَتَرَ وجهه مخافةَ أن تُفْتَنَ به. فقد مات من النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن، تسع عشرة امرأة كمدًا. فالله كما قال ابن عباس قسَّم الحُسْنَ عشرة أجزاء، فجعل منها ثلاثة أجزاء في حواء، وثلاثة أجزاء في سارة، وثلاثة أجزاء في يوسف، وجزء في سائر الخلق، وكانت سارة من أحسن نساء الأرض، وكانت من أشد النساء غَيْرَةً. فكان فضل يوسف على الناس، كَفَضْلِ القمر ليلة البدر على نجوم السَّمَاء.
ولذا صار “يوسف” – الذي هو عَلَمٌ قُرْآنيٌّ – رَمْزًا لدى الشُّعراء يشيرُ ويُومِئُ “لما في الإشارة من سرعةٍ وقَصْرٍ وخفاءٍ”.
وإذا كانت البلاغة “لمحة دالة” – كما قال قدامة بن جعفر فإن “يوسف” لفظة قليلة من أربعة حروف اشتملت على معانٍ كثيرةٍ بإيماءٍ إليها.
وقد حاولتُ أن أبني من “يوسف” بناء تعبيريًّا شعريًّا غير مباشر، لا أُسَمِّى، بل أُوحي.