يطرح التاريخ المبكر للإسلام إشكاليات وأسئلة جديدة يهتم بها باحثون مختصون في مجالات علمية مختلفة، من أهمها التاريخ والأركيولوجيا والفيلولوجيا وعلم المخطوطات والكوديكولوجيا، ورغم أهمية النتائج التي يصلون إليها بأبحاثهم، إلا أنهم يصطدمون دائما بمنظومة فقهية مغلقة وجامدة، لا تعترف بالتاريخ كما تنبذ العقل وتنفر من نتائج البحث العلمي، وهي منظومة ما زالت تستقوي بأنظمة اجتماعية متخلفة، وأنساق سياسية ليس في صالحها بناء الإنسان المواطن، أو إحداث أي تغيير حقيقي.
ولعل أكبر عوامل الجمود التي تعاني منها المنظومة الفكرية والثقافية الإسلامية كثرة الطابوهات والحواجز النفسية والعقلية، التي تسبب فيها انتقال الطابع القدسي من النص الأصلي إلى قواعد الفكر الفقهي وشروحه وتفاسيره، التي تحولت إلى ما يشبه القيود الصارمة التي تمنع أي تغيير في اتجاه التفكير، وبالتالي أي اكتشاف لحقائق جديدة.
وقد نتج عن ذلك من المعضلات الكبرى في الثقافة الإسلامية أن الشروح والتفاسير والآراء التي قام بها الفقهاء بعد قرون من العصر النبوي أصبحت جزءا من الدين، ما جعل الكثير من الأخطاء تكتسي طابعا مقدسا بما فيها الأخطاء الإملائية والنحوية التي ارتكبها النساخ فأصبحت جزءا من النص القرآني غير قابلة للتعديل ولا التصحيح، رغم أن الجميع يعرف بأنها أخطاء، بل إن بعض الفقهاء تفننوا في تأويلها على أنها من “الإعجاز” القرآني أو الأسرار الإلهية.
هذا ما حدث في موضوع “الإسراء والمعراج” الذي يُناقش كل سنة مع كل “احتفال” يكرر فيه الفقهاء نفس العبارات التي تفيد بأن الأمر يتعلق بواقعة مادية حقيقية، بينما يرى غيرهم بأنها خرافة منافية للعقل وللقرآن نفسه، وأنها مليئة بتناقضات غير مستساغة بل ومضحكة، وطبعا كالعادة دائما يرافق هذا النقاش نوع من الاضطهاد والتهجم والتشهير الذي يُواجه به كل من يُحاول نقد الرواية الأورثوذوكسية الواردة في “صحيح البخاري”.
ولعل السورة التي ورد فيها ذكر “الإسراء” والتي تُسمى في الأصل سورة “بني إسرائيل” لا تطرح مشكلا في حدّ ذاتها، لكن الطريقة التي فسّرها بها المفسرون القدامى بعد 200 عام من بدايات الإسلام تطرح مشاكل عديدة، يرفض الفقهاء اليوم مناقشتها لأنهم اعتبروا تلك التفاسير جزءا من العقيدة. ويقول البعض إن “العقائد لا تناقش”، وهذا صحيح، ولكن ليس دائما، فمتى تُطرح بعض العقائد للنقاش بشكل حتمي لا يمكن تجنبه ؟
يحدُث ذلك في ثلاث حالات على الخصوص:
1) عندما تمسّ عقيدة ما بكرامة الإنسان وبقيمته، حيث يصبح التمسك بها مدعاة إلى مظالم كثيرة. وذلك مثل اعتقاد اليهود والنصارى والمسلمين في أمور يعتبرونها من صميم عقيدتهم لكنها تمس بكرامة المرأة مسا خطيرا وتهينها في شخصها وفي النظرة إليها، ومثال ذلك اعتقادهم في أن المرأة اشتقت من “ضلع أعوج لآدم”، وهو ما تمخض عنه تاريخ طويل من الاحتقار والاضطهاد الذي نجده في المجتمعات الأبوية الخاضعة للديانات الإبراهيمية، بينما لا نجده في المجتمعات “الأميسية” التي تعتمد مركزية دور المرأة وريادتها. ومثال هذا الاعتقاد المُضرّ أيضا ما اعتقده اليهود من أنهم “شعب الله المختار”، حيث أدى بهم ذلك إلى اضطهاد أقوام كثيرة، ثم إلى الانعزال الذي ألب عليهم هم أيضا الكثير من الأقوام وأثار ضدّهم العديد من الدول والمجتمعات، وخلق تاريخا من الشتات والمحارق.
2) أما الحالة الثانية التي يعمد فيها الناس إلى مناقشة عقائد دينية فهي عندما تكون لها صلة ببعض المعطيات الواقعية أو التاريخية، كمثل القول إن الله قد أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي هو في مدينة القدس بفلسطين، فهذا يطرح مشكل التناقض مع المعطيات التاريخية البديهية، لأن “الإسراء” إذا كان نوعا من المعجزة النبوية عند المؤمنين إلا أنه لا يمكن أن يذهب إلى مستوى إحداث مسجد مادي في القدس في تلك الفترة من تاريخ الدعوة المحمدية، حيث سيكون على الفقهاء توضيح أين اختفى ذلك المسجد في الفترة الفاصلة بين الإسراء وفترة البناء الحقيقي للمسجد في العهد الأموي، ولماذا صلى عمر بن الخطاب في العراء إذا كان هناك مسجد موجود في القدس قبل دخوله إليها ؟
وكمثل قول الديانات الإبراهيمية إن موسى خرج من مصر مع قومه إلى صحراء سيناء، حيث يؤكد جميع علماء الحفريات والمختصين في الحضارة المصرية القديمة أنه لا توجد إشارة واحدة أو شاهد من الشواهد التاريخية الأثرية على ذلك العبور الكبير الذي يستحيل ألا تؤرخ له النقوش المصرية التي اهتمت بجميع الملوك المصريين وبالأحداث الكبرى لتلك المرحلة.
فمثل هذه النقاشات لا تعدّ ازدراء للأديان لأنها ليست طعنا في عقائد مجردة، بل هي نقاش علمي عميق غرضه الدراسة التاريخية العلمية لمعطيات وردت في الكتب المقدسة واعتُبرت من طرف رجال الدين وقائع حدثت فعلا على الأرض وفي بقعة جغرافية بعينها، ما يقتضي التثبت والبحث الدقيق من طرف العلماء.
وكمثال على ما نقول اعتذار الكنيسة للمسيحيين عندما أثبتت الدراسات العلمية المختبرية الدقيقة بأن قطعة قماش كانت تُنسب للسيد المسيح (وكان المؤمنون يتبركون بها)، لا تعود إلا إلى القرن الرابع عشر وليس إلى عهد المسيح، بل إن العلماء حددوا حتى مكان صُنعها بإيطاليا في عصر النهضة، ولكن إذا كانت الكنيسة تتحلى بشجاعة أن تعتذر فيبدو أن مشايخ المسلمين لا يعتذرون أبدا، بل على العكس يسارعون إلى المطالبة برأس من اكتشف حقيقة ما، إذا كانت تُناقض ما يقولونه.
3) والحالة الثالثة التي يمكن فيها مناقشة بعض العقائد هي التطابق الذي يوجد أحيانا بين عقائد دينية معينة وعقائد أخرى في ديانات مغايرة تماما وأكثر عراقة، كمثل التشابه الكبير بين قصص الأنبياء وتاريخ ملوك الأشوريين والبابليين في زمن سابق على عصر الديانات الإبراهيمية، وهي أمور تزعج فقهاء هذه الديانات لكنها تبقى مجالا خصبا للبحث الدقيق الذي يسمح بفهم التسلسل التاريخي لتطور الأفكار الدينية عبر آلاف السنين، ومن ذلك ما حدث في موضوع “المعراج” الذي يعرف جميع من درس الديانة الزرادشتية بأن قصة الصعود إلى السماء على ظهر حيوان له رأس إنسان لم توجد في الإسلام وحده بل كانت منتشرة في الشرق القديم قرونا قبل الدعوة المحمدية.
ومثالها أيضا ما نُسب للنبي “يسوع” أو عيسى بن مريم من أنه وُلد من أم عذراء وأن له 12 من أتباعه ومريديه، وأنه صنع معجزات كثيرة أمام الناس، وأنه مُخلّص البشر حيث ضحى بنفسه من أجل الكل، وهذه الخصائص الخمسة بكل تدقيق منسوبة قبل المسيحية بقرون طويلة للإله “ميثرا” في الديانة الهندية القديمة، الذي وُلد من العذراء “أناهيتا” في نفس يوم ميلاد المسيح 25 دجنبر وكان لديه 12 من أتباعه وصنع نفس معجزات المسيح كالمشي على الماء وإحياء الموتى وغيرها واعتبر مُخلّصا للبشر ومضحيا بنفسه من أجلهم، بل أكثر من ذلك فقصة “ميثرا” تقول إنه أقام “العشاء الأخير” قبل صعوده إلى السماء تماما كما يُنسب ليسوع، وحتى اليوم المقدس لعبادة الإله “ميثرا” فهو يوم الأحد، فيمكن القول إن المسيحيين قد استنسخوا حرفيا ديانة هندية قديمة، ومن الصعب القول إن التشابهات المذكورة مجرد صُدفة.
كما أن قصة النبي موسى وُجدت أيضا بحذافيرها قبل الديانة اليهودية بحوالي ألف عام، وهي قصة الملك “سرجون الأكادي” مؤسس السلالة الأكادية، وهي أيضا بحذافيرها قصة “كارنا” ابن إله الشمس في الملحمة الهندوسية العريقة “ماهابهارتا”، وتكررت في قصص أخرى منتشرة في العصور القديمة السابقة على الديانات الإبراهيمية بقرون طويلة.
ونفس الشيء يُقال عن التشابهات حدّ التطابق الموجودة بين قصة نوح الواردة في الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث وقصة “الطوفان البابلي” الموجودة في أساطير بلاد الرافدين قبل ذلك بكثير، حيث الغضب الإلهي الذي سلط الطوفان عقابا للبشر، وصنع أحدهم السفينة التي جُمع فيها البشر والحيوانات ثم بعد نهاية الطوفان رست السفينة على جبل. إلخ…
ونفس الشيء يقال عن قصة النبي محمد في “غار ثور” عندما اختبأ في الغار وجاءت عنكبوت ونسجت خيوطها على باب الغار فهي قصة يصعب ذكرها دون أن نتذكر سيرة حياة القديس “فيليكس النولي” الذي عاش في القرن الثالث الميلادي ـ أي قبل أربعة قرون من ظهور الإسلام ـ والذي فرّ بدوره من مضطهديه فتعقبوه نحو غار اختبأ فيه ثم جاءت العنكبوت ونسجت بيتها في مدخل الغار لتوهم الجنود الرومان أن الغار فارغ لم يدخله أحد.
وكذا قصة “غار حيراء” فهي واردة بالكامل في نصوص الزرادشتية لأن كتب هذه الديانة وكذلك النقوش الصخرية التي خلفها أتباعها تقول إن زرادشت اعتكف بدوره في جبل “سابلان” لمدة معينة يتأمل في معنى الخير والشر، إلى أن جاءه ملاك الوحي وخاطبه. والغريب أنّ أول من آمن بزرادشت زوجته “هافويه” وابن عمه “ميتوماه”، وأنّ قومه اضطهدوه ورفضوا دعوته فاضطر للخروج من بلدته والسعي في الأرض لنشر ديانته.
وكذلك ما أورده الفقهاء في قصة “المعراج” وصعود النبي محمد إلى السماء السابعة على ظهر حيوان برأس إنسان، فالرواية الإسلامية احتفظت بالكلمة الزرادشتية الفارسية “بوراق” والتي تعني “أسرع ما في الكون”، كما أن صعود النبي محمد عبر السماوات بصحبة الملاك “جبريل” ملاك الوحي، لا تكاد تختلف عن قصة صعود النبي زرادشت بدوره بنفس الشكل ولقائه ملاك الوحي وكبير الملائكة “فوهومانو” الذي أخذه إلى السماء ووضعه بجانب عرش الإله “أهورامزدا”.
بل إن من التشابهات العجيبة أن قصة “الصعود إلى السماء” في الديانة الزرادشتية وُضعت في كتاب “اَردا ویراف نامه” الذي جاء بعد عهد زرادشت وليس في الكتاب المقدس الأصلي الذي هو “الأفستا”، تماما كما هو الشأن في الإسلام حيث لم يرد خبر “المعراج” في القرآن بل وُضع في “صحيح البخاري” بعد القرآن بأزيد من 200 عام.
إن الأمر إذن يتعلق بأفكار وقصص دينية متداولة ورائجة على نحو واسع في العالم الشرقي القديم، انتقلت إلى بلدان وثقافات مختلفة لتكتسي في كل واحدة منها طابعا خاصا، ولكنها تظل نفس الأفكار والقصص.
إن من حق أي مسلم أن يؤمن بـ”الإسراء والمعراج” كما ذكره المفسرون المسلمون القدامى، وهو حق مبدئي لا جدال فيه، ولكن من حق أي باحث في تاريخ الأديان أن يقول بكل موضوعية إن قصة “الإسراء” تتناقض مع معطيات تاريخية بديهية، كما أن قصة “المعراج” إلى السماء قد ذُكرت في ديانات سابقة على الإسلام ونقلها بحذافيرها المفسرون المسلمون القدامى، ونسبوها إلى النبي من خلال أحاديث وُضعت في العصر الأموي والعباسي ـ وما أكثر ما وُضع في ذلك العصر من أخبار لأغراض ومصالح شتى ـ وعلى المشايخ والفقهاء والدعاة عوض الانزعاج من النقاش أن يُثبتوا، إن استطاعوا ذلك، أن ما يسمونه في قصتهم “المسجد الأقصى” موجود في بداية الدعوة الإسلامية بالقدس قبل وصول الإسلام إليها، وأن يُثبتوا بأنه لا علاقة بين القصة الزرادشتية مثلا وقصة “المعراج”، وسيُصبح الموضوع علميا وليس عقديا، وستُستعمل فيه أسلحة الفكر والبحث العلمي وليس أساليب التحريض والترهيب والعنف الرمزي والمحاكمات الغبية.
والغريب أن اضطهاد الإعلامي ابراهيم عيسى في مصر خلال السنة الماضية والسعي إلى محاكمته تمّ بسبب موضوع يتفق معه فيه كل الاتفاق أحد شيوخ الأزهر السابقين وهو الإمام محمد مصطفى المراغي المتوفى عام 1945، والذي كان شيخا للأزهر في الثلاثينات والأربعينات، وسبق له أن أكد على الأمور التالية بكل عقلانية وشجاعة:
ـ أنّ الصعود المادي بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة مستحيل، لأن الهواء معدوم، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم المادي الحيّ أو يتنفس فيه.
ـ أن الإسراء والمعراج يُعتبران مُعجزة، والمعجزة إنما تتم حين اجتماع الناس حتى يستدلّ بها الرسول على صدقه أمام الجمهور، كما حدث مع جميع الأنبياء السابقين، بينما ما حصل حسب المفسرين تم ليلا والناس نيام، ما اعتبره المراغي عبثا “لا يليق بحكمة الحكيم”.
ـ أن حديث “المعراج” اشتمل على أشياء غير منطقية مثل شق بطن الرسول وتطهيره بماء زمزم من أمور معنوية مثل المشاعر السلبية والشرك إلخ..، بينما الذي يُغسل بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب من العقائد الزائفة.
ـ أن ركوب البُراق بشكله الغريب لا مبرر له إذ لو أراد الله أن يرفع نبيه إليه لفعل بقدرته.
ـ أن القول بأن الله قد أوجب خمسين صلاة على أمة الرسول، و”تفاوض” الرسول بشأنها ليقلصها إلى خمس، أمر غير جائز في حق الذات الإلهية لأنه يقتضى نسخ الحكم قبل العمل به حسب الشيخ.
ـ أن الحديث عن الأنبياء كما لو أنهم أحياء بأجسادهم فى السماء أمر غير مستساغ، لأن الحياة في العالم العلوي حسب الشيخ روحية لا جسمانية، وبهذا دافع الشيخ عن “المعراج الرّوحى” أو المعنوي قائلا إذا كان الفقهاء يعتبرون “الإسراء والمعراج” تشريفا للنبي وتعظيما فينبغي أن يكون الصعود رمزيا ـ في صيغة رؤيا مثلا ـ وليس ماديا.
قال الإمام المراغي هذا الكلام فلم يحاكمه أحد آنذاك، ولا اعتبره أحد “كافرا”، بينما يريد مشايخ التخلف محاكمة ابرهيم عيسى وغيره من المثقفين والباحثين المدققين اليوم ونحن في العقد الثالث من الألفية الثالثة. هذا يشير بوضوح إلى مقدار التراجع الخطير الذي ابتليت به مصر وبلدان المنطقة، بسبب موجة الغلو والجهل المنتشرة.
لا شك أن المراحل القادمة ستحمل معطيات كثيرة جديدة تدفع إلى إعادة النظر في الكثير من الأفكار الدينية القديمة، كما أن النقاش سينعطف من مجال المحاكمات والتهديد والوعيد وسوء المعاملة إلى مجال الفكر والبحث العلمي الدقيق، وسيكون البقاء في الأفكار والعقائد للأصلح.