لعل أي حديث متجدد في موضوع وحدة قوى اليسار الذي أسال مدادا غزيرا في العقدين الأخيرين , يقتضي اليوم إيلاء الأولوية لتفكير جماعي نقدي لتجربته السياسية والتنظيمية , يتغيا بلورة وإنضاج رؤية تقدمية مستقبلية, يترابط فيها الإيديولوجي بالسياسي بالتنظيمي وبالثقافي, ويعيدنا إلى الأسس المتينة لانبعاث يسار قوي موحد ووازن , في مقدمتها :
1ـ إعادة الاعتبار للإيديولوجيا في العمل السياسي الحزبي, لما لها من أدوار إيجابية في تشكيل ثقافة سياسية , وتشكيل منظومات قيمية مؤطرة للفعل السياسي , وموحدة للإرادات , ومعبئة من أجل تحقيق مطالب وبرامج تستجيب لحاجات التقدم والتنمية والدمقرطة ..فلا يجوز اختزال الإيديولوجيا في تعريف أحادي, أي باعتبارها “وعيا زائفا “, فالإيديولوجيا هي الإطار الفكري الذي يعبر تصوغ اتجاهات ودوافع وأهداف ومصالح محددة , و يضفي , بالتالي على الممارسة السياسية معنى وقيمة.. وفي هذا السياق فإن تجديد اليسار لارتباطه بالاشتراكية, فكرا وتجارب أمسى ,في زمن تغول النيوليبيرالية المتوحشة وسياساتها المدمرة على كافة الصعد , ضرورة وجودية هوياتية شديدة الحيوية والحساسية في وضعيته الراهنة والمستقبلية , هنا.. وهناك. و عليه فإ ن أية دعوة أو مجهود لإعادة بناء وتوحيد قوى اليسار المتفرقة ,والمنتشرة في مناحي المجتمع , لن تكون ذات فعالية وجاذبية خارج الاجتهاد النظري ,و الحوار الفكري والسياسي الجماعي , فهذان شرطان لا غناء عنهما لإعادة صياغة الاختيار الاشتراكي لليسار في ضوء التحولات المجتمعية للمغرب الراهن, والمعطيات الجديدة والمعقدة لعالم اليوم.
2_ إعادة مد الجسور بين الفعل السياسي الحزبي, وبين الفعل الثقافي التنويري في مختلف فضاءات المجتمع, إنقاذا للسياسة من مختلف النزعات التي تخلع عنها نبل مقاصدها من براغماتية فجة , وانتهازية لا أخلاقية , وشعبوية فقيرة المعنى وقصيرة النظر..الخ . إن الفعل الثقافي المرتبط عضويا بالفعل السياسي هو أقوم مسلك لإرساء ونشر وعي سياسي جماعي مؤطر بقيم المواطنة الإيجابية والفاعلة, قيم الحق والعدل والاعتدال واحترام الاختلاف , والاعتراف بالآخر كذات مستقلة ,وكحرية في التفكير والاعتقاد والاجتهاد .., ذلك هو ما سيقيم أمام النزعات اللاعقلانية النكوصية , والمسلكيات الحزبية ,السياسوية الانتهازية والانتفاعية ..سدا منيعا ,ويعيد ,بالتالي للسياسة ,كفكر وممارسة قيمتها ونبلها ومكانتها كتعبير راق عن المواطنة الإيجابية , الفاعلة والمسؤولة.._
3 ـ ارتباطا بذلك , بديهي تكرار القول: إن مهمة إنضاج ثقافة تنظيمية حزبية جديدة , تتجاوز عوامل انكسارات مسار تاريخي طويل , تفرقت فيه السبل بين الإخوان والرفاق بسبب هيمنة نزعات الإقصاء والهيمنة وسوء التدبير للاختلافات, هي في ظل المشهد الحزبي البئيس الحالي ,” أعز ما يطلب” , إنها مسألة وجود من عدمه , فبدون تجديد الثقافة التنظيمية , فإن الحزب اليساري الكبير كإطار تنتظم داخله مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية ,من مثقفين وأطر مختصة وشباب ونساء وعمال وفلاحين ومهنيين من مختلف القطاعات, سيظل مجرد شعار و سراب.
إن إطارا تنظيميا جامعا لليسار, لن يصير واقعا ذا حضور وفعالية وجاذبية وأفق للأستمرارية المتجددة إذا لم يكن ” في بيته” تجسيدا للديمقراطية التي ينشد إرساءها في المجتمع . من بين المكونات الجوهرية للثقافة التنظيمية الجديدة ,القبول بالتعدد ,والانضباط الطوعي والمسؤول للقواعد والمساطر المنظمة له , والتدبير الديمقراطي العقلاني للاختلافات في الرأي والتقدير , واستعادة دور الحزب ” كمثقف جماعي”.
إن ذلك وغيره ما سيحصن اليسار الوحدوي من النزعات المرضية للزعامة , ويدرء مخاطر الانقسام والحلقية والتذرر التي لطالما عشنا , وما زلنا , مضاعفاتها الكارثية على الصف اليساري ,و الديمقراطي التقدمي عموما .. كثيرون سيعتبرون الإشارات الموجزة أعلاه, مجرد ” فذلكة” تعيد كلاما مملا, مستغرقا في “وهم وحدة اليسار”!, وإذ أتفهم دوافع ذلك المتمثلة في مناخ اليأس والإحباط وفقدان الثقة الذي يسم المجال السياسي عامة , ووضعية اليسار على وجه الخصوص , فإنه لا يضيرني في شيىء تجديد الإلحا ح على أن وحدة اليسار في إطار حزب اشتراكي ديمقراطي واحد ومتعدد هو ” أعز مايطلب” في ظل الواقع المأزوم لأحزاب اليسار المغربي, و الانحراف المخجل “لأعتاها “, إنه مطلب الأمس واليوم والغد الذي بدون التقدم في بلوغه سيبقى طموح الإصلاح والتغيير هو الوهم الأكبر في عصر عولمة تفقيرية سائبة , وتحولات مجتمعية عمقت الفوارق الاجتماعية , وعطلت الدمقرطة الموعودة للدولة, وشوهت منظومة القيم ..الخ .
لذلك، فالحاجة إلى حزب أو قطب اشتراكي ديمقراطي قوي تنظيميا, وإشعاعي فكريا وإيديولوجيا, ووازن سياسيا, ليس رغبة صادرة عن ذوات حالمة أو”رؤوس جامدة”, وإنما هو ضرورة موضوعية لم ,ولن يمحوها أو يلغيها وهن وعجز الأدوات الحزبية والفصائليةالقائمة وهو الجواب الذاتي العقلاني والواقعي على ذينيك الوهن والعجز , ودونه , الحضيض , كما نعاين , من حين إلى آخر , علاماته البئيسة, وتجلياته الصادمة . وللحديث بقايا .