مرة ، خاطبت حمامة أهلها من كل ذي ريش بلسان الطير .. قائلة : يا إخوتي في وطن الأعالي الذي انتزعناه جديرين بسلطان التحليق .. ما بالي أرى ذلك الكائن الممجوج المائع الغرور الجسور الذي يسمي نفسه إنسانا يأسر كثيرا منا ..
يتحايل علينا حتى يصطادنا بشباك لا فكاك منها أو يسدد نحونا رصاصه الذي يتناثر في الهواء ليصيب أكبر عدد .. فيذبحنا ويضعنا على موائده طعاما .. يأكل إخوتنا وأبناءنا وكل حبيب ساقه حظه السيء إلى مصير محتوم ..
كل ذلك ثم يقوم برسم صورنا على القمصان ويضعها على راياته و يذيعها في تلفزيوناته وملصقات دعايته وأكاذيبه وهو يذرف الدمع معتقدا أنها رمز للسلام .. باكيا على الحروب التي سعرها .. بلا استحياء .. حتى إنه فاق كل بني جنسه من المشائين الضواري .. صفقت الطيور بأجنحتها موافقة .. فقام البوم وقال بعد أن سعل بصوت أجش : نعم .. هل تعلمون أنه يخيف صغاره بي ويتطير مني حتى إنه يهجر كل مكان أعمر فيه ..
ينعتني برمز الخراب .. والخراب كما أعرف ما هو إلا حصاد ما زرعت أيديه .. بضغائنه وأحقاده وأوهامه .. رماد النار التي أشعلها بحروبه .. أيوجد كائن أحمق من هذا .. بليد يتذاكى وجهول أرعن .. لا يكاد يرسو على حال .. حتى إن منه من يربطني صفاقة بالحكمة ..
يضحكني هذا النعت حد الغثيان ..هاج الجمع ضاحكا بمرارة فاختلطت الأصوات و تعالت حتى لم يعد أحد يسمع أحدا .. فقام النسر وحلق بعيدا قبل أن يهبط على علو شاهق زاعقا بصوت مدو ..
انتبهت الطيور إلى كاسرها فصمتت .. فقال : أرجو الحفاظ على النظام ..و فعلا .. فقد عم هدوء غريب لم يكسره إلا نعيق الغراب .. متشكيا باكيا .. فقال : يا إخوتي .. لا أدري ما عساي أفعل إزاء محنتي .. تعلمون أن عدونا الإنسان يتطير مني ..
ما إن يلمحني حتى تعلو وجهه الكٱبة و يتملكه القلق .. فيهرع نحوي حاملا مقلاعا ألقمه حجرا صلدا يكسر ضلوعي إذا أصابني ..و عندها .. صاح الخفاش .. و لكن مصيبتك أهون من مصيبتي .. وإنني يا إخوة الأعالي كما تعرفون جيدا .. أكثر من يعاني منكم من سوء خلق هذا الكائن الرديء .. فهو يصفني بالظلامي .. وينعت كل رجعي باسمي .. ضحك الجمع ..
وما هي إلا برهة حتى استرسل الخفاش قائلا : قد عرفتم أنه يصدق أكذوبته بأنني مصاص دماء .. حتى إنه يقص لأطفاله حكايات مختلقة عني .. فيريعهم بمنظري ومنظر بني جنسي من الوطاويط .. والحقيقة أخت البديهة هي أننا نحن الخفافيش من نخشاه .. ونفر من أي أرض وطأتها قدماه .. حتى إننا اتخذنا أجمات الشجر التي لا يدخلها ضوء الشمس مسكنا .. وجعلنا من الكهوف والمغاور بيوتا نفر إليها من بطشه و جبروته و قسوته ..
ومع هذا لا يتركنا في حالنا .. فيختلق و يشيع عنا الأكاذيب تلو الأكاذيب .. والمصيبة أنه يصدقها .. صفقت الطير طويلا بأجنحتها وتقافزت ومنها من طار محلقا وعالت أصواتها موافقة .. ولم تهدأ إلا حين انتبهت إلى النسر يدعوها لذلك .. بمهابة قاض مجرب .. وببأس ذي سلطان حكيم .. فأشار للعندليب بالكلام ..
تأوه العندليب بلحن شجي فقال .. ٱه يا أحبابي .. أيتها الأطيار ذوات الأجنحة الخفاقة كبنود في سماوات الحرية .. يا أنداد الغيم والسحائب .. هذا الوحش الذي يسمونه ابن الإنسان .. لو تعلمون .. إن قلبه قفر موحش لا تجتابه الرحمة .. اسألوني عنه ..
أنا من أعيش معه .. معتقدا بوهمه أن الجمال هو ذاك .. أن يسجنني داخل قفص من حديد .. ليطربه تغريدي .. ومن بلادة إحساسه لا يعبأ بانتحابي .. وكيف هو حقيقة .. كيف هو ؟!
سألت باقي الطيور : الهدهد والسنونو و النورس والبجع ونقار الخشب والباز والنحام والإوزة والزرزور والحسون والكناري والببغاء والقبرة والحدأة والدوري والبلشون واللقلق وأبو منجل والغاق والكركي والشحرور والطنان .. حتى الطائر الكاتب !فأجاب العندليب بشجو غائر بعيد ..
إن الإنسان يا إخوتي قاس جدا .. حتى على أخيه الإنسان .. فكيف تريدونه رحيما بنا نحن الطير والحيوان وكل ما على هذه البسيطة من هوام ؟!
*شاعر وإعلامي مغربي