أخيرا اهتدى الإعلام الجزائري إلى وصف هزيمة منتخب بلاده لكرة القدم أمام الكامرون، بأنها “نكسة”… كان يصفها، كونها مؤامرة مدبرة لإقصاء الجزائر من المشاركة في نهائيات كأس العالم لكرة القدم بالدوحة… قبل أيام قليلة، فقط، أعلن عن التداول الرسمي “بمفهوم” النكسة في واقع كرة القدم بالجزائر، عبر وسائل الإعلام المحلية… نفس تلك الوسائل ومن ورائها التوجيه السياسي لها، لم تكل ولم تمل من الضغط على الفيفا لإعادة إجراء تلك المباراة “اللعينة”… ولم تمل ولم تكل في الدفع بأن الهزيمة “المأساوية” دبرتها “مؤامرة خبيثة” ضد الجزائر، “قادها” المغربي فوزي لقجع بمساعدة الحكم الغامبي والفنان جمال الدبوز… وقدمت فوزي لقجع بأنه متآمر، ساحر وصاحب النفوذ القوي بالاتحاد الإفريقي لكرة القدم وفي الفيفا وربما في الأمم المتحدة وفي منظمة الصحة العالمية !!! … إنه هذيان، وبلا طائل وبلا متفهم أو متجاوب…
ويبدو أن الملل والكلل استبد بالإعلام الجزائري، فألقى “بالمؤامرة” في مطرح النفايات، التي تعفن الأجواء السياسية العامة في الجزائر… النفايات التي تتساقط من الديماغوجية التي اعتمدها النظام العسكري الجزائري، عقيدة تعامله داخليا وخارجيا… ذلك الإعلام يتحدث عن “نكسة” في المجال الرياضي… وتلك الكلمة حركت ذاكرتي، لأستحضر استعمال الدولة المصرية، برئاسة جمال عبد الناصر، سنة 1967 لتعبير “النكسة”… لتجنب وصف ما حدث في تلك الحرب “الخاطفة” بين العرب وإسرائيل… وقد تولد عن الصراع بين الكلمتين: النكسة والهزيمة، تحولات كبرى في البلاد العربية إجتماعيا وسياسيا… وإنتاج سياسي وفكري ضخم… “أم نكسات” النظام العسكري الجزائري، هي في فقدانه لصلاحية إدعاءاته وفساد مزاعمه في منازعة المغرب حول الصحراء المغربية، وما نتج عنها من عدائه المفرط للمغرب عبر جملة قطائعه معه… إذ يتابع النظام العسكري تزايد وتناسل حالات صرف النظر الدولي عن تلك المزاعم، بما ينعكس على موقعه دوليا بالضمور ويخصه بالنفور… مقابل انحياز دولي عارم وحاسم للموقف المغربي… إعلاء لمكانة المغرب ولفاعليته في العلاقات الدولية، واعترافا صريحا بالحقوق الوطنية المغربية وبوحدته الترابية، وتبني واضح لمنهجه السلمي، المنتصر ليس وحسب لحق وطني ولمصلحة قطرية… بل المنتصر أساسا للسلم وللتضامن وللتعاون على التقدم في حوض البحر الأبيض المتوسط، في المنطقة المغاربية، في العالم العربي وفي إفريقيا.
مؤخرا، التحقت دولة سيرينام، من مجموعة دول الكرايبي، بكوكبة الدول المعترفة بمغربية الصحراء والمساندة لمقترح الحكم الذاتي المغربي… والتي فتحت قنصليات في الأقاليم الجنوبية المغربية… هي فتحت قنصلية في الداخلة… الممكنات الإستراتيجية، الاقتصادية والديبلوماسية، للمغرب، بالجملة، ساعدت على حشد الدعم الدولي لمقترح الحكم الذاتي المغربي والمتأسس على الانطلاق من ثابت مغربية الصحراء… ولا يملك النظام العسكري الجزائري رادا لهذا التدفق الديبلوماسي، كما لا يملك الحد من نمو منسوب الاحترام للمغرب دوليا… إنها نكسة مؤلمة للنظام الجزائري ومتلاحقة الوخز والإيلام له… من دول مجلس التعاون الخليجي، من الولايات المتحدة الأمريكية، من اسبانيا، من ألمانيا، من مصر، من عدة دول إفريقية، آخرها، البوركينافاسو… من مجموعة دول شرق أوروبا، من دول مجموعة الكاريبي… هي لائحة ليست حصرية، تحتسب فيها دول لم تعلن رسميا عن انحيازها للمغرب ولكنها صوتت مع قرار مجلس الأمن الأخير، الذي تبنى مقتضيات مقترح الحل المغربي، دون أن يسميه… من نوع فرنسا (المدافعة أصلا عن “حل الحكم الذاتي)، المملكة المتحدة والصين… وطبعا روسيا التي لم تعترض على قرار مجلس الأمن، في ما يعني عدم عرقلته ويعني أيضا تفهمها لمضمونه… المضمون الذي يعترض عليه النظام الجزائري جملة وتفصيلا… النظام الجزائري شن ضد ذلك القرار حملة سب وشتم في المنتظم الدولي… مطالبا بنسخ قرارات مجلس الأمن منذ 2017 وإلى قرار أكتوبر 2021، ومتهما الدول التي بلورت وصادقت على القرار بأنها متواطئة مع المغرب…
لقد كان القرار نكسة مؤلمة للنظام الجزائري وملحقته، الحركة الانفصالية… القرار صاغ ورسخ المرجعية السياسية للتعامل الدولي مع المنازعة الجزائرية حول الصحراء المغربية… والتي كلف السيد ديميستورا، باعتمادها والتعامل بها مع الأطراف الأربعة للنزاع، باسم الأمين العام للأمم المتحدة… وقد ساهمت الدولة الروسية، عبر امتناعها، في شرعنة ذلك القرار… وكان هذا أكثر ما آلم النظام الجزائري… لقد تبين له أنه معزول في عراء سياسي بارد، بدون تغطية وبدون حليف أو أنيس… هي نكسة له فعلا… أصابته بدوخة سياسية ستولد له نكسات…
توجه النظام الجزائري إلى تركيا واحدة من أعراض تلك الدوخة… لقد اتجه لتعميق علاقاته مع تركيا اقتصاديا، عسكريا وسياسيا… وكلما توسع في تلك العلاقات، ضاقت علاقاته مع روسيا أو انكمشت… ليجد نفسه يدعم تركيا وهي على خلاف وفي صراع مع روسيا… في ليبيا، في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية وفي سوريا… دوخات النكسات الديبلوماسية أفقدت النظام الجزائري التبصر الضروري في تدبير علاقاته الخارجية… وحتى نبقى فقط في حالة علاقاته مع تركيا… لا يدرك النظام أن الدولة التركية لها موجه من واقع أوضاعها الداخلية، وهو أنها ضد الانفصال… ضد الانفصال الكردي إن في تركيا أو في العراق… وبالتالي فهي ضد الانفصال في الصحراء المغربية… علاوة على علاقاتها المتميزة مع المغرب سياسيا واقتصاديا، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية التركي في مراكش، يوم 12 ماي، حين “أكد على الموقف المبدئي لتركيا… في دعم السيادة والوحدة الترابية للمغرب…”… وهكذا لن يربح النظام الجزائري تركيا في عداوته للمغرب… لكنه يهرول في منحدر نحو خسران صداقته مع روسيا.
الذي حدث نهاية الأسبوع الماضي، لعله الشرارة التي ستشعل نيران نكسة جديدة للديبلوماسية الجزائرية… ولعلها تكون “أب” النكسات… دائما بدوخة جنون البحث عن ما يقلق المغرب… تم إغراء سفير روسيا في الجزائر ايغوربلياليف لكي ينحرف عن توجيهات بلاده مصرحا “بأن الشعب الصحراوي من حقه تقرير مصيره مثل الشعب الفلسطيني”… منذ أن اشتعل النزاع حول الصحراء المغربية، لم تستعمل الديبلوماسية الروسية مصطلح “الشعب الصحراوي”… وهي غير معترفة بما يسمى “الجمهورية الصحراوية”… ولا تخصص للبوليساريو أي معاملة ديبلوماسية…. ميخاييل بوجدانوف، الرجل الثاني في الخارجية الروسية، كان قد استقبلني، في موسكو، بحضور سفير المغرب السابق في روسيا السيد عبد القادر لشهب، في أبريل 2019، وأكد لي أنه سبق والتقى مع قياديين من البوليساريو في الجزائر، وأوضح لهم أنه يلتقي “بحركة سياسية” ولن تتعامل موسكو معها، قط، تحت مسمى “الجمهورية”… بل، يضيف أنه أوصاهم بالمضي في سبيل الحل السلمي لأن الحل العسكري مآله الفشل… وأكد لنا أن روسيا ملتزمة بقرارات مجلس الأمن، وهي تزن حق وزنها قيمة علاقاتها مع المغرب وآفاقها المستقبلية الواعدة… مرجعيات التعامل الروسي مع نزاع الصحراء المغربية ثابتة وواضحة، وضمنها مراعاة عدم التشويش على علاقات روسيا مع المغرب… ولم تمض أكثر من يومين على تصريح السفير الروسي في الجزائر، حتى أعاده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى موسكو، وعين بديلا عنه سفيرا لروسيا في الجزائر الديبلوماسي فاليريان شوفايف… والذي ليس إلا سفير روسيا في المغرب منذ 2018… وروسيا بعراقة دولتها ودبلوماسيتها، لا تتصرف في مثل هذه القرارات لا بعفوية ولا بمزاجية… قرارها هذا مفعم بالرسائل الايجابية اتجاه المغرب والسلبية اتجاه الجزائر… دبلوماسي جزائري اسمه نور الدين جودي، وصفته جريدة الشروق الجزائرية بأنه “عميد الديبلوماسيين”، رأى في القرار الروسي أنه “مقلق للمخزن وأصدقائه”… الله… الله… كيف هذا أيها الديبلوماسي “المعتق”… يقول “لأنه يصب في صالح التعاون الوثيق بين الجزائر وروسيا”… ويضيف دون أن يخجل أو يرتبك… بأن السيد شوفايف “بلور رؤية ثرية فيما يتعلق بالمجتمع المغربي، ودواليب تسيير شؤون الدولة هناك، إن تعلق الأمر بنظام المخزن، ومحيطه، وكل هذه المعطيات تزيد من منسوب تخوف المغرب… من… احتمال أن يقوم السفير بتقديم المعلومات الثمينة التي جمعها طيلة عمله في الجارة الغربية للسلطات الجزائرية…” هل السيد فعلا ديبلوماسي، عميد وأمين عام مساعد سابق للاتحاد الإفريقي؟…
تصوروا معي أن مهمة الديبلوماسي الروسي في الجزائر هي “نقل معلوماته الثمينة عن المغرب”… إلى السلطات الجزائرية أي المخابرات الجزائرية… “الديبلوماسي” الجزائري يقزم مهام سفير صاحب تجربة عريقة إلى مجرد ناقل لمعلومات…. وأي معلومات؟ هل كان السفير الروسي في الرباط، مثل جيمس بوند، يتسلل ليلا إلى مباني أجهزة الدولة المدنية والعسكرية… أم كان رجل سياسة وديبلوماسية، ملتزم بقواعد السلوك الديبلوماسي المتعارف عليها بين الدول العريقة مثل المغرب وروسيا… وليس له ما ينقله إلى “السلطات” الجزائرية، غير ما ينقله السواح الجزائريون عن الرقي المغربي وعن الخطى الحثيثة، حتى وبعثرات وببعض التباطؤ، نحو الحداثة ونحو التقدم… وهو ما يجلبهم إلى المغرب، قبل، حمى قطع العلاقات التي انتابت النظام الجزائري ضد المغرب… وليس للسفير الروسي ما يقوله في الجزائر، غير ما هو مبثوث ومعروف يوميا في الإعلام المرئي المغربي وفي العالم… عن هذا المغرب… والذي كل ما يراه النظام الجزائري فيه يغضبه ويقلقه… ومع ذلك، وتلقائيا سيجد السيد شوفاييف نفسه يحكي لمخاطبيه في الجزائر، وعلى الأقل، عن الفرق الصارخ وحتى المفزع بين الرباط وبين الجزائر العاصمة… ويمكن إيجاز الفرق والفارق، بأن العاصمة الجزائرية تشكو “خصاصات” ويرثى لحالة تدبيرها البلدي… بينما الرباط عاصمة بحق… مدينة مفرحة، وضاءة، خضراء وهندسة عمرانها تراعي الجمالية والفعالية والإنسيابية… “لغو” الديبلوماسي الجزائري لوحده تعبير عن حنق سياسي للنظام الجزائري من رد الفعل الروسي الذي ينم عن احترام بالغ للمغرب… الرئيس الروسي بقراره ذاك “اعتذر” عن سلوك أرعن لسفيره السابق في الجزائر… وفي القرار، “توبيخ” للجزائر على محاولتها الإساءة للعلاقات الروسية المغربية… وتأكيد واضح “للخط التحريري الروسي” في موضوع نزاع الصحراء المغربية… لأن السفير الروسي سيقول في الجزائر ما كان يقوله في الرباط… وقد سبق للسفير أن صرح في شهر دجنبر 2020، لموقع هيسبريس بأن روسيا تعتبر نزاع الصحراء… مشكل “استمر مدة طويلة ولا بد من إيجاد التسوية…” له… “التسوية العادلة على أساس القانون الدولي… وخاصة القرارات ذات الصلة لمجلس الأمن للأمم المتحدة…” ويضيف بأن روسيا ترى “أنه ليس هناك أي حل لهذا النزاع إلا الحل السياسي التفاوضي”… وهي تدعم “جهود الأمين العام للأمم المتحدة…” والسفير خلال مقامه بالمغرب كان دائما فاعلا ايجابيا في تطوير العلاقات الروسية المغربية، والتي قال عنها إنها متميزة وراسخة منذ ستينيات القرن الماضي ولم تتأثر بتجاذبات الحرب الباردة…
والنكسة الكبرى في كل ما حدث هي أن موسكو ترجح كفة المغرب في أفضلياتها الديبلوماسية في المنطقة… وتوسع معه طريق التفاهم والتعاون… والاحترام المتبادل… تحترم كما هو… يدافع عن حقوقه ويصون مصالحه… محترما حقوق ومصالح الأطراف في علاقاته الدولية، المتعددة، المتنوعة، الواقعية، والصريحة والمفيدة له ولغيره… وما حدث هو نكسة للنظام الجزائري… تعمق من نكساته… ومفتوحة على توليد نكسات أمر له، جراء سياساته التي لا تصدر عن بصيرة… بل عن أحقاد وحسابات ضيقة وأنفاسها قصيرة.