للمبدع المغربي مولاي الحسن حيضرة ( رحمه الله )
تــقـــديـــم:
إذا كان شيخ الفلاسفة المتصوف والأديب أبي حيان التوحيدي( 310 – 414 هـ / 922 – 1023 م ) قد ظفر بوسيلته الخاصة للإمتاع والمؤانسة، وبمجاله الخصب الخاص بهما، وهما ممتعان ومؤنسان حقاً؛ وبخاصة في كتابه:” الإمتاع والمؤانسة “(1) الكتاب الذي تأسس على ثمرة يانعة لجملة من المسامرات السبع والثلاثين ليلة نادم فيها الوزير أبا عبد الله العارض؛ وهو من كتب التراث الثمينة المختص بدراسة أدب التوحيدي وأسلوبه الإنشائي وقدرته الفنية والبلاغية، وهو- في نفس الوقت – يتفرد بنوادر اختص ببسطها هذا الكتاب، بل في هذا الكتاب محاولة جادة للكشف عن الحياة العقلية والاجتماعية والسياسية في عصر أبي حيان، فإنه لـ” شيخ الخطاطين التشكيليين المغاربة “(2) المبدع المغربي مولاي الحسن حيضرة، أسلوبه الإبداعي والفني الغني والثر في كل ذلك باعتباره أديبا مراكشياً مغربياً متميزاً ومطلعاً على عالم الكتب- بفعل عمله – وعلى شتى دروب الأدب والنقد والفن، واطلاع على بعض أصناف الإبداع بصفة عامة وعالم التصوف، ومن اتصال بالحياة، ومن قدرة فنية عبر بواسطتها عن مستوى راقٍ من الإبداع الأدبي والفني مترسماً في ذلك خطى الإبداع في قوالب وأنماط الحداثة سالكاً في سبيل ذلك طريق التجريب والمزاوجة بين الأدب والفن التشكيلي الحروفي بالخط العربي، ومن إحالته على مجالات فكرية، وذوقية، وعلمية، وفنية؛ منها التراثي، والعصري المدعم بالابتكار نهجاً لجمع أوصال التجربة عما هو سائد في تجارب الحداثة المنتسبة إلى الشعر، وهي أبعد ما تكون عنه، مما استدعَي ويستدعِي مزيداً من الحذق لغاية الكشف عما في هذا الكتاب من التنوع ومن التعدد في الأدب والفن والفكر؛ لذلك وجدناه عملاً مفتوحاً على شتى أنواع القراءات وضروب التأويل.
ويعتبر كتاب المبدع مولاي الحسن حيضرة” أنا أكتب إذاً أنا أمحو ” من أهم الركائز التي فجر فيها هذا المبدع الجليل المترسم لشتى دروب التصوف ألاستشفافي لا مترسماً خُطَـى تجربة حياتية وإنما عن طريق القراءة والاطلاع وهضم ثقافة التصوف المبثوثة هنا وهناك، وقد سخر في سبيل الوفاء لهذا الصنف من الإبداع كل طاقته الإبداعية التي أسسها على ثقافة جمعت بين كونها ثقافة أثيلة/قديمة، وحديثة/عصرية، ساعده كل ذلك على بناء هذه التجربة على رهافة إحساس، وعلى اقتناصه الدهشة؛ دهشة المتلقي بمقومات ذاتية وموضوعية، وهو ما استدعي أن يكون هذا المتلقي متسلحاً بثاقب نظر، وتوسع مدارك، وقدرة على الاجتهاد والتأويل أثناء تعامله مع التجربة، كما دعا هذا المتلقي لاستنفار حصيلته العلمية والثقافية، وقدراته الذهنية، لغاية الكشف عن مدلولاتها المتشابكة والمتعددة؛ ومن ارتباطها بالماضي والحاضر، ومن بنائها على تكثيف لغوي عماده الدلالات المجازية والرمزية والإيحائية سواء تعلق الأمر التعامل مع بنيتيها السطحية أو العميقة مما رفع من سقف التصوير والتخيل بنوعيه الجزئي والكلي، وللكشف عن معان خاصة ومخصوصة للحروف والألفاظ والمعاني لا في حقلها اللغوي، وإنما في حقليها الصوفي والحروفي الذي يعتبر أحد اهتمامات الشريف مولاي الحسن حيضرة؛ أعني ما دل عليه مفهوم الحروفية في الفن التشكيلي عند أعلامه الكبار( calligraphy) وما اشتملت عليه هذه التقنية الإبداعية من جمالية في الحركة والتناغم الجمالي والرمزي والدلالي وملأ الفراغات في كل لوحة من لوحات التجربة، وإن كنت أخص بهذا لوحة الغلاف الخارجي الأولى.
ومن الراسخ عندي- قناعة – ميل هذا المبدع للاحتفاء بمفهوم النصية( text ) تجاوزاً منه لمفهوم القصيدة المعروف في الشعر العربي، وفي فن المقالة وأجناس أدبية أخرى في النثر؛ وقد يبدو تحمس المبدع لهذا بادٍ لكونه لم يعتمد تجنيس عمله هذا إلا باعتباره » نصاً « ؛ وذلك في إشارة إهدائي الكتاب، وضمن كلمتين انطباعيتين مقرضتين للتجربة الأولى للدكتور فيصل أبو الطفيل، والثانية للأستاذ خالد شكري…
وبالربط بين مجموعة من الدلالات اتضح لي أن هذا المبدع قد راهن على نصية مفتوحة؛ فتحها بخاصة على لغة عربية نظيفة تحترم القواعد؛ وهي- فوق ذلك – قوية قوة تتجلى في كونها معتنى بها في لفظها وفي سبكها لغاية تمرير دلالتها الصوفية، وهي- فوق ذلك – لغة أثيلة تعززها أساليب البيان العربي، وثقافة استمدها من مفاهيم التصوف الإسلامي كما عند بعض أعلامه الكبار منهم من صرح بتأثيره عليه الكاتب- أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج(858 – 26 مارس، 922) (244 هـ 309 هـ) – ومنهم من لم يصرح بذكره، وأثره باد في لوحات النص بعامة؛ أذكر منهم المتصوف العراقي أبي عبد الله محمد بن عبد الجبار النفري- ت 345 هـ – والمتصوف الأندلسي محي الدين بن عربي- ت 638 هـ – 1240م – وإن كنت أرجح حضورهما بتفاوت في تأثر المبدع بمضامينهما في الكتاب؛ دل على ذلك اغتراف المبدع من معين مفاهيمه الصوفية هنا وهناك، فالمبدع مولاي الحسن حيضرة- على سبيل المثال – وجدته قد ترسم خطوات ابن عربي في قوله:( كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة )، وفعلا فالقراءة المتأملة لكتاب مولاي الحسن تدلنا على هذا، وتشي لنا بأن الرؤية اتسعت لدى هذا المبدع، وأن عبارته ضاقت، وأن ملاكه- كما يعتقد – هي التي ترشده في دروب الفن وهي التي دعته- وحفزته – إلى البحث عن آلية روحانية غير مصكوكة بقواعد تعبيرية؛ فكان له ما أراد في التشكيل الجرافيتي( Graffiti ) باعتباره اللغة الموافقة في زمانه، واللغة البديلة المعبرة عن تنازع رؤاه المشروعة في عالمي الإبداع المشروع والفن المتاح؛ وذلك في غير بعد عن التراث العربي والإسلامي، وعن لغة التجلي الصوفي المدعم بالنَّفَسْ البياني؛ ورغم هذا فإن المبدع استأنس في تأسيس تجربته في هذا الكتاب على أن التشكيل الذي افترَضَ تضمنه قولاً متواري وتعبيراً يُقصَدُ إليه تعبيراً عن الرأي، وهو تشكيل تعزز عنده بالكتابة، واللوحة الفنية وألوان وخطوط تتضافر لتسهم في بناء عالم متسع الأكناف تسنده الدهشة وتعززه الغرابة في التكوين والبناء، ولا يعدم الأمر ترقباً وتوجساً مما سيأتي به الجهد من قبول أو رفض عند المتلقي، وإن كنت أرجح أن القراءة تتيح مجالاً أرحب للقراءة والاستئناس والمتعة والتأويل عند قارئ متمرس لا عند عامة القراء…
وفي واقع الأمر فإن المبدع أسس تجربته الفريدة على النحت؛ نحت معانيه من التصوف الإسلامي، ومن القرآن الكريم، والحكمة، ومن الألوان، والخطوط الدقيقة والعادية وبالبنط العريض، وباستعمال البياض بين العناوين وبين كثير من الفقرات واعتماد التشكيل؛ وهو بكل ذلك يتجاوز مفهوم القصيدة إلى مفهوم النص الإبداعي الذي يرعى على أعشاب الحرية وعدم التقيد بالجاهز كما عند أساطين الحداثة الشعرية.
وإذا كان أبو حيان التوحيدي قد مثل شخصية الفيلسوف المتصوف والأديب الذي انتهى به الأمر إلى إحراق جل كتبه- في الواقع – بعد أن جاوز عقد التسعين من عمره حتى لا يبقى منها أثر لعين مبصرة، فإن الشريف مولاي الحسن حيضرة قد سلك منطقياً- على أقل تقدير – في بناء هذا النص الإبداعي – نفس النهج من خلال تفعيل آلية المحو؛ لا محو أو غسل كل ما كتبه وطمس معالمه تعبيراً عن إزالة وجوده، وإنما بمعناه عند الصوفية؛( المحو ) الذي يتجلى في حالة من العزلة تقترب من الغيبة والسكر يعيشها الصوفي لما يفقد عقله وعلمه وحسه مما يعرضه لفقد وجوده الفعلي كما دل عليه المحو سلفاً، وهو ما يعني أن فعل الحرق عند التوحيدي أفاد إزالة أثر ما كتبه الشيخ الفيلسوف والأديب من الكتابة والكتب؛ والكتب- لا شك – حروف وألفاظ وعبارات، فهذا الفعل/الحرق مرفوض عندنا وعند غير واحد من الدارسين والباحثين للظاهرة. إن هذا ربما يوازي فعل المحو عند الأديب المراكشي المبدع مولاي الحسن حيضرة في كتابه على اعتبار أن المحو هو محو للكتابة المتعارف عليها لتحل محلها اطراداً الدلالة الصوفية – كما أسلفت – على العزلة تقترب من الغيبة والسكر بعيداً عن الواقع المادي المؤدي أحياناً إلى الموت؛ ذكروا عن أبي عبد الله التروغندي أنه( ما كان يفيق إلا في أوقات الصلاة، يصلي الفريضة ثم يعود إلى حالته، فلم يزل كذلك إلى أن مات )(3)، وهذا وحده يدعونا إلى عدم ربط المحو بما عرفناه عند أدباء وعلماء عرب ومراكشيين؛ منهم من محا/غسل كتبه مثل داود الطائي الذي طرح كتبه في البحر، أو حرقاً(4) فبرروا عملهم ذاك بتبريرات نفسية أو سياسية!
وإذا كان كتاب أبي حيان التوحيدي عبارة عن جلسات أدبية تحظى بالإمتاع والمؤانسة والإفادة، فإن كتاب مولاي الحسن حيضرة هو كذلك يحظى بهذه الميزة؛ لكنها كتابة إبداعية وفنية وفكرية وذهنية وذوقية، فتحها صاحبها على آفاق رحبة للقراءة والتحليل والتأمل والتأويل، وعلى استنبات المتعة والفائدة، والإحساس بالأنس مشاركة له انطلاقاً من تمثل ما دلت عليه مكونات الكتاب الجديد وما بني عليه من تصور.
فهذا المبدع عمل على الانفلات من كل ما هو متداول في صناعة الكتاب في عصره وما قبله من العصور، وهو يصر بإصراره الثوري على تجاوز الجاهز؛ بدءاً من لوحة الغلاف، فدعوة المتلقي للمواجهة والغوص في إدراك خلفية تعدد الإهداء الذي خص بمحتواه أبويه، ثم بعض من يثق بهم لخصوصيات أدركها فيهم، وكذا صديقه ومقدم كتابه المتفاعل مع أفكاره وراعي إبداعه بالقراءة والتحليل الشاعر والإعلامي مصطفى غلمان لما له عليه من فضل النصح حتى استقامت التجربة بخصوصياتها الذاتية والموضوعية.
مــفــتـــاح هذه الــقــــراءة:
رب سائل يسألني:
لماذا تسعى باحثـاً عن دلالات الإمتاع والمؤانسة في هذا العمل الإبداعي دون ذلك وفيه غنىً في الإبداع، وجمال في الفن، ومضامين وأساليب متعددة؟
جوابي أختزله في الآتي:
لما أهداني الشريف مولاي الحسن حيضرة عن طريق الأديب الأريب أخي الأستاذ الجليل مولاي الحسن الخلفي نسخة من هذا الكتاب أرفقه بإهداء دال بدا لي أنه يشي بهذا الجانب من القراءة في الكتاب، وكأن المبدع لمح إلى غايته من كتابة الكتاب لقارئ سيجد صعوبة في اختراق عالمه المتمنع عن الاختراق، والفريد الذي لا يدرك كنهه سواه؛ والعبارة هي: » إلى الأخ الفاضل الأستاذ عبد الرحمان الخرشي هذا النص إمتاعاً ومؤانسة.. محبتي« وقد وجدت في هذا الإهداء توجيها مباشراً لقراءتي التي أعتزم كتابتها، فحفزني هذا الإهداء إلى العمل على استنباط بعض ما تضمنه هذا النص- والإهداء صرح بأنه نص – من الإمتاع والمؤانسة وهما أيقونتا هذا الإهداء البارزة.
مــفــتـــاح هذه الــدراســـة:
كان أول مفاتيح الدراسة الانطلاق من أننا أمام صيغة أصلية وردت من المؤلف حول ما كتبه اليوم، وهي أنه نص؛ والنص يقتضي إجلاء دلالته ومكوناته النصية، ومقوماته الفكرية والفنية والبيانية، وغاياته القريبة والبعيدة، وما اشتمل عليه من العناصر المتاحة باعتبارها أسهمت في التأكيد على تأثيل قاعدته الإبداعية والفكرية والفنية الصلبة، ومدى إجلاء بعض أساسات قيامه، ووجوده، وإظهار مدى فاعليّته وحيويته، وأن الوسيلة الناجعة الموصلة إلى كل ذلك؛ هما آليتا القراءة والتأويل !.
وثاني مفاتيح هذه الدراسة التأكيد على أن عنوان النص مستوحى وربما يتقاطع مع مقولة ديكارتية( 31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650 ) مشهورة مؤداها أسبقية الوجود للوعي لما قال هذا الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي” أنا أفكر إذن أنا موجود “، وللكشف عن هذا يلزمنا تفكيك شفرة ما انتهيتُ إليه من عنوان لهذه القراءة التي أردتها أن تكون هادئة، وأحبذ أن أستهلها بتفكيك دلالات ومؤشرات بارزة في عنواني:( الإمتاع والمؤانسة في كتاب” أنا أكتب.. إذاً أنا أمحو ” ).
……………..( يتبع )
(1) أبو حيان التوحيدي –” الإمتاع والمؤانسة ” اضطلع بتحقيقه أحمد أمين وأحمد زين. ظهر في ثلاثة أجزاء صدرت السنوات 1939 – 1944.
(2) مصطفى غلمان. مقالة” حروفيات أصيلة ” مجلة هسبريس الإليكترونية، بتاريخ: الإثنين 4 يونيو 2018.
(3) عبد الكريم القشيري( ت . 465 هـ ). مُصَنَّفُه” الرسالة القشيرية ” أهم مصادر التعرف إلى مذهب الصوفية. جـ 1 ص: 320.
(4) أذكر الشاعر أحمد النور المراكشي، والعالم الجليل الشيخ الرحالي الفاروق رحمهما الله مثلا.
(*) سبق أن أهداني- بإهداء مؤثر – شيخ الخطاطين الحروفيين التشكيليين المغاربة المبدع المغربي مولاي الحسن حيضرة( رحمه الله ) كتابه” أنا أكتب إذاً أنا أمحو ” فكتبت عنه قراءة أهديته إياها ورقيا، فزاد كرمه علي فأهداني لوحة تشكيلية من فنه الراقي؛ ومن الخوف على ضياعها أنشرها على صفحتي الفيسبوكية في أجزاء.